الصحبة الصالحة والحاجة إليها
من الجوانب المهمة والدروس المهمة أيضًا في هذه القصة: أثر الصحبة الصالحة وارتباطها بقضية الثبات، والحاجة الملحة إليها خاصة في أوقات الفتن والمحن، أو في الأوقات التي يزيد فيها الفساد فأحوج ما يكون المرء إلى هذه الصحبة، فجاء هؤلاء فتية واجتمعوا وتعاونوا ولهذا صار يوصي بعضهم بعضًا ويعين بعضهم بعضًا على الحق، بل إن بعض المفسرين ذكر لطيفة وليست هي أكبر قضية في شأن الصحبة الصالحة، لكن قال: هذا الكلب صاحبهم فجاء ذكره في القرآن وصار المفسرون يتحدثون عن اسم هذا الكلب وعن شأنه وعن خبره فيقولون: إذا كانت الصحبة الصالحة قد انتفع بها الكلب فأن ينتفع بها المخلوق من باب أولى، لكن أكثر من ذلك دلالة قول النبي ﷺ لما ذكر الملائكة الذين يتتبعون مجالس الذكر: (فيصعدون إلى ربهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك.
قال: فماذا يسألونني؟ ومم يستجيروني؟) إلى آخر الحديث وفيه: فلما قال الله ﷿: (أشهدكم إني قد غفرت لكم) قالوا: فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جاء لحاجة يعني أنه ما جاء حتى مجاملة ولكن جاء يريد حاجة، يمكن أنه أتى يبحث عن أحد الموجودين فرآهم في المجلس فما أراد أن يقطع عليهم الحديث فجلس فقال الله ﷿: (هم قوم لا يشقى بهم جليس) إذا كان هذا يا أخي فما بالك بالذي لرغبة وإن كان خطاء أو مقصرًا؛ لكن جاء لرغبة وجاء يقول: لعل الله ﷿ أن يرزقني البركة في مصاحبة الصالحين، وأن يجعلني ممن أحب قومًا ولما يلحق بهم، فالله ﷿ يحشر المرء مع من أحب.
أيضًا الحاجة إلى التعاون على الثبات والخير والتلاقي، وكلما أصبحنا نشعر اليوم أن الفتن أصبحت تهدد المسلمين ينبغي أن يدعونا هذا إلى أن نتكاتف جميعًا وأن نتواصى بالحق وأن نتناصح وأن نتعاون على الثبات، وألا يهمل بعضنا بعضًا، وألا يدع بعضنا بعضًا، بل يأخذ كل منا بيد أخيه ليعينه ويثبته ويسدده على هذا الطريق.
جانب آخر أيضًا: حينما استيقظ هؤلاء تساءلوا: قالوا: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ [الكهف:١٩].
لما استيقظوا بدر إلى الذهن سؤال طبيعي وكأنهم استطالوا النوم فقالوا: كم لبثتم؟ قالوا: يومًا أو بعض يوم، ثم قالوا بعد ذلك: ربكم أعلم بما لبثتم، يعني: النقاش في الموضوع ليس بعمل، والنقاش في الموضوع ليس هو المرام، فننا الآن أمام قضية يجب أن نعالجها ونعتني بها وهي أنهم يحتاجون إلى الطعام فليذهب أحدهم إلى المدينة وليختر الطعام ليأتي به، وهي قضية مهمة فيما نملأ به مجالسنا وفي أدب النقاش والحوار والجدل، فأحيانًا القضايا التي ليست ذات بال قد تثار للنقاش وقد تطرح سؤالًا نجيب عليه هنا وهناك، لكن لا ينبغي أن تملأ مجالسنا، بل يأتي التعقيب على هذه القصة بهذا المعنى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف:٢٢].
والعجب أن هذه الآيات تؤكد على هذا المعنى، والسورة كلها تؤكد على هذا المعنى، أي: على عدم الجدل فيما لا يفيد، إلا أنك تجد بعض المفسرين يستطرد في كلام كثير فيذكر أسماءهم واسم الكلب والغار وغير ذلك.
والله ﷿ ما أنزل علينا هذه الآيات لهذا، ولكن لنعتبر ونتعظ ونأخذ ما فيها، والقضية لا تختلف سواء كان الكهف في أسبانيا أو في الهند أو هنا أو هناك، ولو كان في الأمر قضية نحتاج إليها لما أهملها القرآن ولذكرها القرآن.
أيضًا من اللطائف التي نشير إليها أنهم قالوا: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا﴾ [الكهف:١٩] يعني: يختار طعامًا طيبًا مناسبًا، قال بعض المفسرين: إن اختيار الإنسان للطعام الطيب والحسن أمر لا يخالف المشروع، وذكر الله ﷿ ذلك وهو يثني عليهم، فلا حرج أن الإنسان يختار طعامًا طيبًا وإن كان يجد ما هو دونه في غير سرف ولا ما إلى ذلك.
جانب آخر أيضًا في هذه القصة: قال الله ﷿: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ [الكهف:١٩] وهذا يعني: أنه كان عندهم ورق وعندهم نقود، ثم قالوا: ﴿فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾ [الكهف:١٩]، وهذا استنبط منه بعض المفسرين أنهم كانوا أثرياء وأبناء طبقة ثرية وكان معهم ورق ولذا اختاروا طعامًا طيبًا، والطعام الطيب لا تختاره إلا فئة اعتادت عليه وألفته، وليسوا من الطبقة الفقي
10 / 14