Дары шейха Ибрагима Аль-Фареса
دروس للشيخ إبراهيم الفارس
Жанры
منهج السلف في تلقي العقيدة
إن لأهل السنة والجماعة ثوابت وقواعد لا يمكن أن تتغير على مر الأزمان وإن من أعظمها وأبرزها ثوابت العقيدة والمنهج المستقى من كتاب الله وسنة رسوله الله ﷺ، فالعقيدة لها شأن عظيم ومنزلة كبيرة؛ لذا كان لزامًا على أهل السنة أن يلتزموا ثوابت معينة ويعملوا على نشرها بين الناس.
1 / 1
من منهج السلف في تلقي العقيدة اقتصارهم على الكتاب والسنة في التلقي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أيها الأحبة! أيها الإخوة! إن الحديث عن السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين حديث ذو شجون، كلنا يحبه؛ لأننا نقدر هؤلاء السلف الذين حملوا لنا الرسالة من لدن بعثة المصطفى ﷺ إلى زماننا هذا.
والحديث عن السلف يأخذ مناحي متعددة، فهناك حديث عن بطولاتهم، وهناك حديث عن زهدهم وورعهم، وهناك حديث عن عباداتهم، وهناك حديث وهناك حديث.
ومن ضمن هذه الأحاديث حديث عن منهجهم في تلقي العقيدة.
أولًا: لم اخترنا هذا الموضوع؟ هذا الموضوع - كما ستعرفون بعد قليل - علمي يحتاج إلى تركيز ومتابعة، ولعل السبب الذي جعلني أختار هذا الموضوع: هو أن هناك فئات متعددة، وتجمعات كثيرة كل منها يدعي أنه على الحق، ويقول: إنه حامل راية الصدق، لكن هذه الادعاءات المختلفة تحتاج إلى مقياس وميزان ومعيار يستطيع الإنسان بموجبه أن يقيس هذا الكلام هل هو حق أم باطل؟ إذًا: ما الذي يعرفني أن كلام هذه الطائفة صحيح أو تلك الطائفة صحيح أو الثالثة أو الرابعة؟ الذي يعرفني ذلك هو هذا المنهج الذي سنتلقاه بشكل موجز في هذا اللقاء.
ولنعلم أن منهج السلف في تلقي العقيدة منهج مطول وموسع، لكن سأحاول قدر جهدي أن أجعله في نقاط رئيسة، وفي تتابع سهل وميسور؛ حتى يسهل استيعابه، وسترون من خلال هذا الطرح أن هناك جماعات من الطوائف والفرق تخرج من هذا المنهج، وبالتالي لا يبقى لدينا إلا طائفة واحدة فقط، وهي الطائفة التي ذكرها المصطفى ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خذلهم) أي: الطائفة الناجية أو الطائفة المنصورة، وهذه الطائفة هي المتمسكة بمنهج السلف، أما بقية الطوائف فإنها تبتعد أو تقترب من منهج السلف بحسب تمسكها بما جاء عن السلف، فكلما كثر هذا التمسك اقتربت من هذا المنهج، وكلما صار العكس حصل العكس.
إذًا: منهج السلف في تلقي العقيدة هو معيار أو ميزان أو مقياس نستطيع أن نقيس به مناهج الفرق الأخرى، وما أكثر الفرق التي تحيط بنا! وما أكثر الجماعات التي تلتف حولنا! لن أذكر شيئًا منها بالأسماء الآن، وقد يتطرق الحديث عنها بعد حين إن شاء الله.
أولًا: من هم السلف؟ هل هم الذين مضوا وانتهوا أي: عصر الصحابة؟ هل هم الذين ذكرهم الرسول ﷺ في قوله: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) أم أن من سار على منهجهم فهو منهم حتى في العصور المتأخرة؟! التعريف الصحيح: أن من سار على منهج السلف، وطبق طريقتهم، فإنه منهم ولو كان متأخرًا عنهم.
إذًا: سيكون هناك أناس من السلف سيأتون بعدنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أو قبل ذلك؛ لأن القيامة لا تقوم وفي الأرض من يقول: الله الله! ما معنى كلمة منهج؟ كلمة (منهج) قد تكون غريبة، لكنكم تعايشونها دائمًا في مناهج التعليم، كمادة القراءة، ومادة العلوم، المنهج: عبارة عن كتلة أو كيان أو شيء يحتوي على جملة أشياء أو جملة نقاط متكاملة ومتجانسة مع بعضها البعض، ويجمعها عامل واحد، أو يجمعها فقه واحد، أو أسلوب واحد.
فإذا ذكرنا منهج السلف في الزهد فمعنى هذا: أن نتحدث عن كل ما له صلة بالزهد عند هؤلاء السلف، وهكذا في الأمور الأخرى.
دعونا نبدأ في عرض منهج السلف في تلقي العقيدة.
النقطة الأولى في هذه المسألة: اقتصارهم - أي: السلف - على مصدري التلقي: القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فلا يأخذون من العلوم الأخرى، ولا يأخذون من القوانين الأخرى، ولا يأخذون من مناهج الغرب أو الشرق، إنما منهجهم في التلقي هو القرآن، ثم السنة، فإن لم يوجد في القرآن والسنة شيء من ذلك كنوازل العصر الحاضر فإنهم يجتهدون في ذلك، وإذا أجمعوا على هذا الأمر أخذوا به.
والإجماع يكون في أمور الفقه، أما في أمور العقيدة فلا؛ فإن مسألة الإجماع هنا غير واردة، وإنما يقتصرون في تلقي العقيدة على القرآن وعلى ما ورد في السنة فقط، ولا يكاد يوجد إجماع أو كلام حول الإجماع في مسائل العقيدة.
فهذه النقطة ميسورة وسهلة، وربما أقول: هي الأساس الذي بنى عليه السلف منهجهم ولا شيء غيره، وهذه النقطة يتفرع منها عدة نقاط: النقطة الأولى: اقتصارهم على مصدري التلقي القرآن والسنة الصحيحة، وذكرنا الصحيحة هنا لأن هناك بعض الطوائف الذين قد تخرجهم هذه المسألة مباشرة.
فإذا جئنا مثلًا إلى طوائف الصوفية تجد أحدهم يعبد قبرًا أو يطوف به أو يتمسح به تقول له: يا أخي! هذا لا يجوز، هذا حرام، يقول لك: لا، لقد ورد عن الرسول ﷺ الأمر بذلك.
ما هو الدليل؟! قال: يقول الرسول ﵇: (من أحسن ظنه بحجر نفعه ذلك الحجر) نقول: هذا نص حديثي ذكر عن الرسول ﷺ، ونحن في منهجنا أن التلقي في العقيدة يقتصر على القرآن والسنة الصحيحة، فنأتي إلى هذه السنة ونناقشها، وندرسها سندًا ومتنًا، وفي النهاية سنجد أن هذا حديث موضوع.
إذًا: أنتم يا طائفة الصوفية! تخرجون من الحلبة في أول جولة من جولات الصراع إن صح التعبير.
ولو جئنا إلى العقلانيين، وهم الطوائف التي تأخذ بالعقل وتحكم به، أمثال المعتزلة قديمًا، ومن أمثال أهل العقل حديثًا ممن يعيشون بيننا ويتواجدون ربما في بلاد الإسلام بكثرة، ولعل لهم مؤلفات كثيرة، ولهم كتب موجودة ومنتشرة، ويشاركون في المؤتمرات والدراسات والدروس وغيرها، من أمثال فهمي هويدي، ومحمد الغزالي، ومحمد عمارة، وغيرهم يأخذون بمبدأ العقل ويحكمونه، وتجد أنهم يحكمون العقل في مجال العقيدة فعلًا، وبالتالي إذا أردتم معرفة المزيد عن هذه المسألة انظروا إلى الردود الموجودة في الأسواق على كتاب محمد الغزالي: السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث، ستجدون أنه أخضع أحاديث العقيدة الصحيحة إلى العقل، فيحكمها عقلًا.
إذًا: هذا المنهج - الاقتصار على التلقي في ما يتعلق بالعقيدة على القرآن والسنة الصحيحة - يخرج هؤلاء العقلانيين.
1 / 2
الاعتقاد الجازم أن رضا الله يكون بالإيمان بالكتاب والسنة
وهذه النقطة يتفرع عنها جملة نقاط ومسائل، أولى هذه المسائل: الاعتقاد الجازم بأن رضا الله ﷾ والفوز بجنته لا يمكن أن يتم إلا بالإيمان بهما، والعمل بما جاء فيهما.
فهم يعتقدون اعتقادًا كليًا لا يخالطه شك ولا ريب أن رضا الله في الدنيا الذي يترتب عليه مزيد من الرزق والعافية والتمكين في الأرض، ورضا الله في الآخرة الذي يترتب عليه المغفرة والرحمة وبعد ذلك دخول الجنة؛ لا يمكن أن يتم إلا بالعمل بعد الإيمان، بعد أن تؤمن بما في القرآن، وتؤمن بما في السنة، وتطبق ما فيهما، فإن هذا الرضا سيكون من نصيبك.
هذه القضية قد تخرج كثيرًا من الأشخاص الذين لهم توجه عقدي يخالف منهج أهل السنة، هم منا وفينا ولكنهم منحرفون في مجال السلوك، فإنهم يعيشون مثلًا في المعاصي أو في كبائر الذنوب معيشة مستمرة متواصلة؛ فهؤلاء لا نقول: إنهم ليسوا من السلف، ولكن نقول: إنهم بعيدون عن منهج السلف بقدر بعدهم عن التمسك بالقرآن والسنة، فكلما ابتعد الإنسان عن تطبيق ما في القرآن والسنة قيل له: إنك مبتعد عن منهج السلف بمقدار ابتعادك عن تطبيق ما فيهما.
إذًا: تلحظون أن هذه النقطة - وهي الفرع الأول من النقطة الأولى - تخرج كذلك مجموعات من الناس، وستجدون في نهاية المطاف أن الذين يسيرون على الحق - فعلًا - هم قلة قليلة؛ ولذلك يقول الله ﷾: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف:١٠٣] هم قلة، ويقول تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة:٣٩ - ٤٠]، ويقول: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود:٤٠].
إذًا: تجد أن أهل الحق قلة، وبالتالي لا يلزم من هذا أننا إذا أخرجنا هذه الطوائف والفرق أنه ينتهي أهل الإسلام، لا، بل إن أهل السنة هنا هم القلة، وهذا أمر واضح وبين: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة) طائفة هنا تعتبر جزء قليل من عموم الأمة.
1 / 3
كمال الدين
المسألة الثانية من النقطة الأولى: أن هذا الدين كامل، وهذه نقطة من أهم النقاط؛ لأن هناك طوائف وفرق تعيش بيننا وتعاشرنا تقول: إن هذا الدين ناقص، فهناك مثلًا الرافضة الذين يقولون: إن الرسول ﷺ انشغل بالحروب وبالمعارك، ولم يكن متمكنًا - بسبب ذلك - من تبليغ عموم الرسالة، فخشي من أن يأثم؛ لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة:٦٧] ولم يجد أمامه أناسًا مؤهلين، فهم يقولون: إن الصحابة كانوا منافقين، وبعضهم كان كافرًا، وبعضهم كانت أهدافه دنيوية، فالمصطفى ﵇ كان منشغلًا بالحروب أولًا ولم يجد لديه الجيل المؤهل لتبليغ الرسالة، وأمامه إشكالية أخرى، وهي: أنه يجب عليه أن يبلغ؛ فذهب بالعلم كله وأعطاه لـ علي بن أبي طالب.
ثم علي بن أبي طالب لم يجد من الناس مؤهلين للعلم، فأعطاه الحسن، والحسن أعطاه للحسين، فتناقل بين أئمة الشيعة.
ثم جاء الإمام الحادي عشر عند الشيعة الحسن العسكري فوجد أن الناس غير مؤهلين فنقله إلى المهدي المنتظر: محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى في سرداب سامراء سنة مائتين وستين للهجرة، ولا زال مختفيًا على قولهم.
إذًا: اختفى هذا الطفل ومعه الشريعة كاملة، ومن هذه الشريعة - كما يذكرون - مصحف فاطمة، فهو مثل قرآننا ثلاث مرات، وليس فيه من قرآننا حرف واحد.
وفي روايات أخرى تقول: إن الله أنزل هذا القرآن سبعة عشر ألف آية! والقرآن الموجود عدد آياته ستة آلاف ويزيد قليلًا معناه: أن الموجود هو الثلث، وهذا يصدق الرواية الأولى.
إذًا: الشيعة يدعون أن الدين ناقص، وأن الله لم يكمل الدين، وأن قول الله ﷾: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:٣] غلط، وليست بصحيحة، وبالتالي: فهذه الطائفة تخرج من هذا المعيار والمقياس.
وهناك طائفة أخرى، وهي طائفة الصوفية، فهم يقولون: إن هذا الدين ناقص؛ لأنهم يقولون: إنكم تأخذون علومكم من ميت عن ميت، ونحن نأخذ علومنا عن الحي الذي لا يموت! ويقول أحدهم: حدثني قلبي عن ربي، فيقولون: أنتم تأخذون علومكم من البخاري الذي أخذها عن فلان وفلان، أو من أبي هريرة الذي أخذها عن الرسول ﷺ، وكلهم موتى، أما نحن فنأخذ علومنا عن الله ﷾ مباشرة.
إذًا: معنى هذا: أنهم يأخذون علومًا متواصلة ومستمرة من الله ﷾ لهؤلاء الصوفية، فكأن دين الله ﷾ الذي أنزله إلى محمد ﷺ ناقص.
ويدل على ذلك تقسيمهم لأنواع التوحيد، يقولون: التوحيد ثلاثة أنواع: توحيد العامة الذي يشترك فيه جميع الناس، ومنهم الأنبياء والمرسلين.
وتوحيد الخاصة الذي يشترك فيه مبتدئو الصوفية.
وتوحيد خاصة الخاصة، الخاص بعلماء الصوفية أو بأقطابهم.
إذًا: معنى هذا: أن هؤلاء يعيشون مراحل من التوحيد لم يصل إليها بعد الأنبياء والمرسلين؛ ولذلك تقول هذه الطائفة بشتى فرقها: خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله، أي: نحن خضنا علومًا لم يستطع الأنبياء أن يخوضوا فيها؛ لعدم مقدرتهم ومعرفتهم.
فقولنا: (إن الدين كامل) أخرج مجموعات من الطوائف والفرق التي تدعي أنها تحمل لواء الإسلام، وأنها تدعو إلى دين الله ﷾، ولو ناقشت أي إنسان من هذه الطوائف لقال لك: إنني على الحق، وأنت على الباطل، وهذا أمر مشاهد، بل وتخرج هذه الكلمة - إن الدين كامل - كذلك طوائف أخرى من أمثال الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية الذين يدعون أنهم على الحق.
ولو ذهبنا إلى بعض المكتبات لوجدنا فيها كتب أبي منصور الماتريدي إمام أهل السنة والجماعة، وللعلم فإن فرقة الماتريدية فرقة منحرفة في باب الأسماء والصفات ومع ذلك يدعون أنهم أهل السنة! فتجد كتبًا موجودة في المكتبات الإسلامية بعنوان: انتشار المذهب السني - كتاب تاريخي عقدي - في المشرق العربي، في القرن كذا وكذا تقرأ الكتاب وإذا هو يتحدث عن انتشار المذهب الأشعري، وهل هو المذهب السني؟! هكذا ادعى، وهكذا قال! إذًا: كل يدعي وصلًا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك فهم يدعون أنهم على منهاج الحق، ولكن قولنا: (إن هذا الدين كامل) يخرجهم، فعندما تأتي إليهم تقول لهم: ماذا تقولون في باب الأسماء والصفات؟ يقولون أقوالًا متعددة، فهؤلاء ينفون أسماءً، وهؤلاء ينفون صفاتٍ، وهؤلاء يثبتون البعض ويؤولون البعض، وهؤلاء يحرفون البعض ويغيرون البعض، وهكذا.
أما السلف فيثبتون ما ورد في القرآن والسنة كما جاء من غير تشبيه ولا تعطيل.
1 / 4
تقديم النقل على العقل
المسألة الثالثة: تقديم النقل على العقل عند توهم التعارض، ولا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح.
هذه المسألة من المسائل التي ركز عليها شيخ الإسلام تركيزًا قويًا جدًا، وأشار إليها في عدة مواضع في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، وهو كتاب مكون من إحدى عشر مجلدًا، مطبوع وموجود.
هذه القضية لو أردنا أن نستفيض في دراستها والنظر في خفاياها لطال بنا المقام إلى حد بعيد، ولكن أحصرها في أمثلة: لو سألت أحدًا منكم عن أيهما يكون نجسًا المني أو الغائط؟ كلكم ستجيبون أن المني طاهر والغائط نجس، ومع ذلك إذا خرج من الإنسان قطرة من المني أوجبت عليه أن يغسل جسده من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه.
لكن إذا خرج منه غائط هل يلزمه ذلك؟ لا، يلزمه غسل الموضع، وتجديد الوضوء فقط، أما غسل الرأس والأكتاف والظهر والبطن والأفخاذ والسيقان هذه ليست واردة.
إذًا: العقل يقول لك: الأصل أن هذا نجس وهذا طاهر فالأولى أن يغتسل الإنسان من الغائط ولا يغتسل من المني، خاصة أن المني طاهر، لكن الشرع يقول لك: لا، بل اغسل جسدك كاملًا لخروج المني ولا تغسله لخروج الغائط أو البول.
إذًا: كأن هناك تعارض بين النقل والعقل، فالذين يأخذون بالمبدأ العقلي يقولون: لا، هذه مسألة حقيقة تحتاج إلى أن نتوقف معها، هذه غير مقبولة عقلًا، فهي مرفوضة عقلًا، لكن أهل الحق يقولون: لا، نقدم النقل على العقل، والعقل هنا صحيح أنه يفرض على الإنسان أن يغتسل من خروج الغائط ولا يغتسل من خروج المني، لكن الشرع يقول لنا: لا بد أن نغتسل للمني، إذًا لا بد أن نغتسل، فقدمنا النقل على العقل.
جاءت الاكتشافات الحديثة والتي تعد مصداقًا لقول الله ﷾: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت:٥٣].
يقول أحد الأطباء الألمان: إنني اكتشفت - بعد دراسة مستفيضة لمدة عشر سنوات - أن الإنسان الأوربي يوجد لديه سرطان الجلد بنسبة تفوق وجودها في العالم الفقير - ومنه العالم الإسلامي - تكاد تصل إلى (١٠%).
يقول: بعد دراسة ومتابعة مستفيضة دقيقة تبين لي أن السبب في ذلك هو أن الإنسان إذا أفرز شيئًا من المني فإن الجلد يفرز إفرازًا معينًا، فإذا تراكم هذا الإفراز مرة وثانية وثالثة وعاشرة أدى ذلك بالإنسان إلى أن يصاب بسرطان الجلد.
أما المسلمون فإنهم عندما يخرج من أحدهم شيء من ذلك فإن عباداته لا تقبل إلا بعد أن يغتسل غسلًا كاملًا، حتى إن الفقهاء يذكرون لك أنه لا بد أن يغسل كل نقطة في جسده، كل شيء حتى ما تحت منابت الشعر، وما تحت الآباط، حتى مغابن الجلد وغير ذلك؛ حتى يزول هذا الإفراز.
إذًا: تلحظون أن التعارض هنا لا يمكن، إذًا: لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح، لكنه تعارض وهمي زال وانتهى في هذا الزمن.
مثال آخر: حديث الذبابة، الحديث المشهور المعروف: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء).
أنت في نعمة وفي خير، فعندما يقع الذباب في الكأس تسكبه وتنتهي، لكن افترض أنك فقير لا تملك إلا هذا الكأس في البر، حال الجوع والعطش فماذا تفعل؟ هل تخرج الذباب مباشرة وتشرب الماء؟ لا، نص الرسول ﷺ يقول لك: (فلتغمسه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء).
في الفترة القريبة - قبل عشرين سنة أو خمس عشرة سنة - اكتشفت هذه المسألة، وإذا بأحد جناحي الذباب يحوي ميكروبات مرض، والجناح الآخر يحوي فطريات تقضي على المرض، فإذا جمع هذا الجناح مع هذا الجناح قضت الفطريات على الميكروبات وانتهى المرض.
ويقول الذين حللوا هذه القضية من العلماء الغربيين: أنهم اكتشفوا أن الذباب عندما يقع في الإناء فإنه يغمس جناحًا ويرفع آخر.
وعندما درسوا هذا، وأجمعوا على أن الجناح المرفوع هو الجناح الذي يحتوي على الدواء، أما الجناح الذي يسقط في الماء أو في العصير أو في غيره فهو جناح الداء، ولذلك جاءك النص: (فليغمسه) فيسحب الماء أو الحليب أو العصير الجراثيم أولًا، وهذا بفعل الذباب وليس بفعلك أنت، ثم بفعلك أنت تغمس الذباب؛ حتى يختلط هذا مع هذا فيزيل هذا هذا.
إذًا: تلحظون أنه لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح، فتقديم النقل على العقل منهج من مناهج السلف، وهذا يرد على طوائف من أهل العقل وهم موجودون وبكثرة في كثير من البلاد الذين يخضعون نصوص الشرع العقدية بالذات للعقل، وأضرب مثال على هذا: أحدهم يقول: قضية عذاب القبر من القضايا التي لا يمكن أن يؤمن بها الإنسان؛ لأننا نحفر القبور ولا نجد فيها مد البصر نعيمًا أو عذابًا، أو حيات أو عقارب، لا نجد ذلك، نحفر القبر فنجد جثة هامدة أو عظامًا بالية، ليس فيها شيء، إذًا: هذا يدل على أنه ليس هناك عذاب قبر، ليس هناك عذاب للقبر نهائيًا، فيا ترى ما هو الجواب على هؤلاء؟ الإجابة على هؤلاء: أننا أولًا نقدم النقل، فنؤمن إيمانًا قطعيًا بأن عذاب القبر ثابت نصًا من القرآن ومن السنة، وأنها من عقائد الإسلام التي ذكر بعض العلماء أن من أنكرها قد يخرج من الإسلام؛ لأنه رد نصوصًا ثابتة لا أقول من السنة بل حتى من القرآن، كما في قول الله ﷾ عن آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر:٤٦]، فغدوًا وعشيًا هذه ليست موجودة في الآخرة، الآخرة ليس فيها صباح وظهر وعصر ومغرب وعشاء، فغدوًا وعشيًا هذه في الدنيا، يعرضون على النار، ثم يوم القيامة يتغير العذاب فيدخلون النار، ويوم القيامة سيكون مآلهم إلى النار بشكل مستمر أو متتابع، هذا دليل من القرآن.
ويوجد في السنة عدة نصوص كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين، وكما في حديث أصحاب القبرين اللذين يعذبان وما يعذبان في كبير، وغير ذلك.
أقول: ليس هذا مجال الرد حقيقة على هؤلاء، لكن هؤلاء يثيرون هذه المسائل، فنحن نقول لهم: لا، بل إن قضية إثبات النقل وتقديمه على العقل هو منهجنا، فإن عرفت الحكمة من ذلك فبها ونعمت، وقد لا أعرفها أنا وتعرفها أنت، وقد لا أعرفها أنا وأنت وغيرنا، وقد لا نعرفها جميعًا ويعرفها من يأتي بعدنا عن طريق دراسات أو بحوث إلى غير ذلك من الوسائل.
1 / 5
الاستشهاد بنصوص الوحيين
المسألة الرابعة: الاستشهاد بنصوص الوحيين، وهذه مسألة من المسائل التي تميز بها السلف، خذ إن شئت كتابًا من كتب أهل العقل أو من كتب المبتدعة أو غيرهم فستجد أن الاستشهاد بالقرآن والسنة فيه نادر.
وقد اطلعت على مجموعة كبيرة من الكتب - بحكم التخصص - فأجد أن الكتاب من أوله إلى آخره لا يحتوي ولا على آية واحدة، وهو كتاب في العقيدة! لاحظ كتابًا في العقيدة ولا آية واحدة تذكر فيه! حديث أو حديثين أو ثلاثة في ثلاثمائة صفحة، لكن خذ إن شئت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب ابن القيم، وكتب محمد بن عبد الوهاب، وخذ أيًا شئت من كتب السلف ستجد أن الصفحة الواحدة فيها عشرات من الاستشهادات القرآنية والدلائل النبوية.
فهذا يدل على أنهم فعلًا يأخذون من مصدري الوحي القرآن والسنة، ويرجعون إليهما، ويستشهدون بهما.
1 / 6
التأدب مع نصوص الوحيين
المسألة الخامسة: التأدب مع نصوص الوحيين، وهذه من النقاط الهامة التي نقع فيها نحن وللأسف، وهذا منهج سار عليه السلف، أما نحن فإننا وللأسف نخالفه.
مثال ذلك: عندما يأتيك إنسان وأنت قد عملت مخالفة معينة صريحة ويقول لك: يا أخي! اتق الله، الرسول ﷺ يقول كذا وكذا، الله ﷾ يقول كذا وكذا، أنت تسمع وتقول: طيب إن شاء الله، جزاك الله خير، وتمشي ولا تلقي بالًا لهذا الكلام، الله يخاطبك والرسول يخاطبك وأنت تضرب بهذا الكلام عرض الحائط.
هل هذا هو منهج السلف؟! دخل عبد الله بن مغفل المزني الصحابي الجليل على ابن أخيه وإذا هو يحذف بالحصى، فقال له: يا ابن أخي! لقد نهى رسول الله ﷺ عن الحذف بالحصى وقال: (إنها لا تصيد صيدًا، ولا تنكأ عدوًا، ولكنها تفقأ العين، وتكسر السن).
إذًا: نقل له نص الرسول ﵇، جاء إليه في اليوم الثاني وإذا هو يحذف بالحصى؛ فغضب غضبًا شديدًا وقال: أقول لك قال رسول الله كذا وكذا وتعود! والله لا أكلمك أبدًا، لاحظوا ابن أخيه فلم يكلمه؛ لأنه لم يتأدب مع نصوص الوحيين، ولم يأخذها على أنها نهي من الرسول ﷺ.
وهذا عبد الله بن عمر ﵁ كان جالسًا مع أولاده، فإذا بـ عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، فقال ابنه بلال: والله لنمنعهن) فغضب عبد الله بن عمر غضبًا شديدًا وقام إلى ابنه وضربه، ثم حلف ألا يكلمه.
أين التأدب مع نص الرسول ﷺ؟ أين التأدب مع قوله ﵇؟ هنا كان الجزاء في عدم التأدب هو الضرب والمقاطعة.
أما نحن في هذا الزمن فكثيرًا ما تأتينا الأحاديث والنصوص، بل والآيات القرآنية الصريحة وليس أن ندخلها من هنا ونخرجها من هنا، بل لا ندخلها أبدًا، وهذه مسألة تخرج كثيرًا من الناس من منهج السلف؛ ولذلك منهج السلف هنا منهج يحتاج إلى مجاهدة وبذل وعمل، ويحتاج إلى ضبط النفس حتى يكون الإنسان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
المسألة ليست غاية في السهولة، لا، إذا كنت تريد أن تسير على منهجهم فلا بد أن تكون مثلهم، أو لا بد أن تقلدهم، أو على الأقل تقترب منهم قدر جهدك شيئًا فشيئًا؛ حتى تكون معهم، وتحشر معهم.
1 / 7
من منهج السلف في تلقي العقيدة عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة
أما النقطة الثانية فهي من النقاط المهمة كذلك، وهي: عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة والاقتصار في بيان العقيدة على القرآن والسنة، وهذه كأنها مشتقة من الأولى، لكن فيها تركيز على جانب مهم، وهو علم الكلام والفلسفة.
جاء مجموعة من الناس إلى الخليفة العباسي المشهور المعروف بـ المأمون الخليفة السابع من خلفاء بني العباس، وهو من أشهر خلفاء بني العباس وأقواهم، وكان رجلًا مشهورًا بالحلم والفضل وغير ذلك، لكنه سود عصره بتقريب المعتزلة وابتلاء أهل الحق من أهل السنة.
هذا الرجل - أي: الخليفة المأمون - احتوته المعتزلة وأثروا عليه؛ فجعلوه معتزليًا مثلهم، ثم طلبوا منه أن يأتي بكتب الفلاسفة القدماء من يونان أو رومان أو فرس أو روم أو هنود أو غيرهم، وفعلًا بدأ يرسل الرسل والمراسلات إلى أصحاب هذه الدول؛ فتقدم الكتب تباعًا.
كان من ضمن هذه المراسلات رسالة موجهة إلى ملك صقلية جورج الأول، فتلقى الرسالة من خليفة المسلمين يطلب فيها نسخًا من كتب موجودة في الخزانة الخاصة بمكتبة كذا وكذا في هذه البلدة أو في هذه الدولة.
فجمع هذا الملك أعيان الدولة وعرض عليهم الأمر؛ فكلهم رفض، قالوا: لا، نحن في حرب مع المسلمين ولا يليق أن ترسل لهم الكتب أو تنسخ لهم الكتب، إلا واحدًا من هؤلاء وكان من علمائهم، فقال: بل أرسل له هذه الكتب وأعطه إياها، فوالله ما دخلت هذه الكتب على قوم إلا فرقت دينهم أحزابًا وشيعًا.
فيبدو أن هذا الملك انصاع لرأي هذا الكاهن أو هذا العالم فأخذ هذه الكتب ونسخها، وكانت مكتوبة باللغة اليونانية القديمة.
جاءت هذه الكتب إلى المأمون باللغة اللاتينية فما الحل؟ الحل أن يبحث عن أناس يترجمونها، فما وجد أناسًا يجيدون اللغة اللاتينية إلا اليهود، واليهود لأنهم يقرءون التوراة باللاتينية فإن بعض فرق اليهود تحرم أن تترجم التوراة للغات أخرى، فكانوا يقرءونها باللاتينية.
فجمع هؤلاء اليهود وعرض عليهم الأمر، فأبدوا استعدادهم للترجمة، ثم بدءوا يكتبون ويكتبون، فوجدوا أن هذه الكتب فيها بغيتهم؛ لأن فيها إفساد لعقائد المسلمين، وفيها تحزيب وتفريق لهم، فبدءوا يكتبونها بسرعة، ثم أعطوها للمأمون بعد أن نسخوا نسخًا منها لهم خاصة.
ثم تقول الروايات: إنهم بدءوا يكتبونها ويعطونها للوراقين بعد الترجمة بأسعار رخيصة، حتى ذكرت الرواية أن الكتاب ذات المائة صفحة كان يباع بعشرة دنانير، ومن كتب الفلاسفة ذات المائة صفحة يبيعونها بدينار يعني: المجلد من كتب أهل الإسلام بعشرة دنانير، والمجلد من كتب هؤلاء بدينار، وأنا شخص لا أعرف، أحب القراءة، فأدخل في مكتب الوراق وأجد أن هذا بدينار، وهذا بعشرة، آخذ ما كان سعره بدينار، فظهرت هذه الكتب وبدءوا يقرءونها ويتأثرون بما فيها، ثم ظهرت الآراء العقدية المختلفة؛ لأنهم لم ينهجوا منهج السلف في عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة؛ ولذلك كان السلف يؤكدون على أن علماء الكلام ليسوا من العلماء، ويقولون: لو أوصى بماله لعلماء بلده لم يدخل في ذلك علماء الكلام.
ويقولون عن أحد السلف: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق ويقال: هذا جزاء من ترك القرآن والسنة وأقبل على علم الكلام.
ما هو علم الكلام؟ هو دراسة المسائل العقدية بمنأى ومعزل عن الكتاب والسنة، يعني: يدرسونها بالأشياء العقلية، وبالاجتهادات والآراء، فيقولون مثلًا: اسم الله ﷾، نأتي بمعناه من عندنا، ونأتي بصفة من صفات الله من عندنا، ومن صفات الله كذا وكذا، فيضيفون صفات لله ليست موجودة في القرآن ولا في السنة، وهكذا، فإخضاع مسائل العقيدة للجوانب العقلية هذا نهى عنه السلف نهيًا كليًا.
1 / 8
النهي عن البدع
ينبثق من هذه النقطة عدة مسائل: المسألة الأولى: النهي عن البدع، ومن ذلك علم الكلام، إذًا القضية هنا ليست قضية علم الكلام فقط، فعلم الكلام ركز عليه في بند مستقل؛ لأنه هو المهم، لكن أعطيت البدع جانبًا آخر من الأهمية، فنهى عن البدع نهيًا تامًا؛ لأن الرسول ﷺ قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (كل بدعة ضلالة).
وقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) إلى آخر ذلك.
فالبدع هنا: كل ما استحدث في دين الله مما ليس له أصل في منهج الرسول ﷺ، وصحابته الكرام، وخاصة الخلفاء الأربعة.
يأتي شخص مثلًا يقول: هؤلاء الصوفية يقيمون احتفال المولد النبوي، ويقيمون احتفال ليلة النصف من شعبان، ويقيمون احتفال رأس السنة الهجرية، ويجلسون جلسات للأذكار، ويقرءون أذكارًا إضافية بعد الصلوات، وأذكارًا مستقلة بأن يتحلقوا فيذكرون الله بشكل جماعي إلى غير ذلك.
نقول لهم: هذه عبادات لكن هل لها أصل في القرآن أو في السنة؟ سيقولون: لا.
نقول: إذًا أنتم تخرجون من منهج السلف؛ لأنكم جئتم بشيء لم يرد عن السلف.
1 / 9
الرد على المنحرفين بمنهج متميز
المسألة الثانية: الرد على المنحرفين بمنهج متميز، شخص الآن سلك مسلك علم الكلام، وبدأ يؤلف في ذلك مؤلفات، وشخص بدأ يدخل في البدع ويدافع عنها، ويكتب فيها المؤلفات، فما هو منهج أهل السنة في هؤلاء وفي الرد عليهم؟ ليس منهجهم منهج السب والشتم واللعن، وإظهار العيوب كما يحصل من كثير من الناس، حتى الذين ينتمون أو يدعون الانتماء إلى المنهج السلفي.
وهنا مثال على ذلك: ابن حجر الهيتمي له كتاب اسمه: الفتاوى الحديثية، له في هذا الكتاب فتوى قدر صفحة كاملة، سئل فيها: ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن الطلاق بالثلاث يقع واحدة، وإن ابن تيمية يقول كذا وكذا؟ جاءوا بقول ابن تيمية فقط وهم يريد الحكم في ذلك، فماذا كانت النتيجة؟ قال: أما ابن تيمية فهو شيخ أضله الله وأعماه، وأعمى بصره، وكلام طويل قدر ثلاثة أرباع الصفحة، ثلاثة أرباع الصفحة هذه كلها سب وشتم لـ ابن تيمية.
ثم في الأخير جاء بقوله الفقهي أو حكمه الذي يراه: أنا رأيي في هذه المسألة كذا وكذا في حدود سطر.
نقول: انتقل الآن إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وانظر كيف يرد على المنحرفين! يذكر القول مثلًا عن ابن سيناء ثم يقول: أما هذا القول فهو قول ساقط متهافت، ما يتعرض إلى شخصيته، مع العلم أن ابن سيناء ثبت كفره، فقد كان يقول عن نفسه: إنني أنا وأبي من أصحاب دعوة الإمام العبيدي، أي: الدولة التي تسمى خطأً الدولة الفاطمية، ومع ذلك نجد ابن تيمية يقول: قال ابن سيناء كذا ويرد عليه.
ويقول: ابن المطهر الحلي، ولا يقول: قال ابن المطهر الحلي الرافضي المجرم الكافر، لا يقول هذا؛ لأن القضية ليست قضية رد على ذوات، وإنما رد على فكر.
إذًا: منهج الرد على أهل الأهواء أو أهل البدع أو أهل الأخطاء عند السلف منهج متميز.
ودعونا ننقل هذه الصورة إلى واقعنا الآن، أنت الآن ترى الشيخ فلانًا من العلماء أو من طلبة العلم أخطأ أو اجتهد اجتهادًا معينًا في مسألة معينة، وهذا الخطأ أمر عادي؛ لأن الرسول ﷺ قال لنا: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) وقال: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم).
إذًا: تجد أن الأخطاء هذه مسألة حاصلة، فليس هناك أحد معصوم إلا الأنبياء والمرسلين، فماذا يترتب على ذلك؟ تجد أن هؤلاء يأخذون هذا الخطأ، ثم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على هذا الخطأ، ويردون عليه ردودًا كثيرةً ومستفيضة، وربما يكبرون القضية حتى يخرجوا هذا الشخص من الإسلام، أو يتهمونه بأنه من غير أهل ملة رسول الله ﷺ.
هذا أمر حاصل، لكنه ليس من منهج السلف، من سار على هذا المنهج فليس من السلف في هذه المسألة بالذات، فما بالكم بالمسائل الأخرى! أنت الآن تسير في الشارع ورأيت رجلًا مثلًا عليه سيما الانحراف في جوانب معينة، فيا ترى عندما ترى ذلك عليه كيف ستتعامل معه هل تقول له: يا كلب! لماذا تفعل هذا الفعل؟ هذا ليس من منهج السلف، إن فعل أحد ذلك قيل له: تعال، أنت خالفت ما عليه السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم في مناقشة أصحاب الأخطاء، بل فتأخذه جانبًا وتعرض عليه خطأه بأسلوب لطيف جميل هادئ، وهذه مسألة لعلكم كلكم تطبقونها.
فمثلًا: إمام المسجد جمع يومًا من الأيام خمسة أو ستة أو سبعة من أهل الحي ويقول: يا جماعة! فلان من الناس جارنا لا يصلي معنا الفجر، وفلان جارنا هذا ما نراه يصلي معنا أبدًا، وفلان عليه ملاحظات كذا وكذا ما هو الأسلوب الحسن لدعوته؟ هل أحد منكم سيقول: نذهب ندق عليه الباب ثم نسحبه بقوة، ثم نأتي به إلى المسجد هنا ونضربه ونحقق معه؟ لا يوجد أحد يقول هذا أبدًا، إنما كل واحد يأتي بأسهل الأفكار والطرق وأيسرها لإبلاغه بهذه النصيحة.
ممكن نزوره يومًا من الأيام ونجلس نتحدث معه في كل المواضيع إلا موضوع الصلاة، ثم نضع له كتيبًا وشريطًا بدون ما يشعر، ثم نخرج، فهذا منهج متميز في الرد، لكن أهل الأهواء والبدع يتسقطون الأخطاء، تجد أحدهم يبحث عن أي خطأ، ثم بعد ذلك يكبره ويكبره ويكبره! ثم بعد ذلك ينشره بين الناس على أنه خطأ فلان ابن فلان من طلبة العلم أو من العلماء أو غيره، هذا هو منهج دارج وموجود وللأسف الشديد، وبالتالي فمن فعل ذلك فقد خالف منهج السلف.
1 / 10
من منهج أهل السنة والجماعة في تلقي العقيدة التزام العدل والإنصاف مع الأعداء
النقطة الثالثة: التزام العدل والإنصاف مع الأعداء، أنا جئت بهذه المسألة متأخرة حتى أربطها بالنقطة التي سبقتها.
التزام العدل والإنصاف حتى مع الأعداء قال تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:٨] هذا هو منهجنا.
منهجنا أننا إذا رأينا المحسن قلنا له: أحسنت، وإذا رأينا المسيء قلنا له: أسأت، وإذا رأينا صاحب الخطأ قلنا: هذا خطأ، وإذا رأينا صاحب الحسنة قلنا: جزاك الله خيرًا على هذه الحسنة، هذا هو منهجنا.
إذًا: نحكم على الجميع بناءً على أعمالهم، ولا نغطي أعيننا عن الحسنات ونظهر السيئات أو العكس، وهذه مسألة لا داعي للدخول في تفصيلاتها، ولكنكم تعرفون أن هناك كثيرًا من الناس يعيشونها بطرفيها المتناقضين.
يعني: بعض الناس الآن يغمض عينيه عن أخطاء هائلة جدًا تصدر من أشخاص أو من جماعات أو من تجمعات أو من غير ذلك ولا يلقي لهذه الأخطاء بالًا أبدًا؛ لأنه يحب هذا التجمع فيثني عليه على وجود الخطأ.
وإذا كره جماعة أخرى أو أفرادًا أو أشخاصًا أو غير ذلك فإنه يظهر مساوئهم بشكل كامل، ولا يلقي بالًا للحسنة، هذا ليس من منهج السلف؛ فمن سار على ذلك فقد خالف السلف، وما أكثر الذين يخالفون السلف في هذه المسألة! وقد ورد عن أبرز السلف - وهم الصحابة - أنهم كانوا يثنون حتى على الغرب، عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أثنى على الروم، فبين في كلام طويل له أن الروم فيهم وفيهم وأنهم يعدلون مع رعيتهم، لاحظوا! الروم وكفرة ومن أهل النار إذا ماتوا على ما هم عليه ومع ذلك أثنى عليهم.
إذًا: قوله تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ [المائدة:٨] طبقها عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ولا بد أن نكون على نفس المنهج، وأن نسير على ذات المنهج، فلا نتطرف يمنة ولا يسرة، بل نقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت.
1 / 11
من منهج السلف في تلقي العقيدة أنهم لا يتعصبون لأحد إلا للرسول
النقطة الرابعة: أنهم لا يتعصبون لأحد إلا للرسول ﷺ، فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا البشير الهادي النذير ﷺ.
فهم لا يتعصبون لجماعة ولا لحزب ولا لتجمع ولا لفكر ولا لمنهج، إنما التعصب هو لما قاله المصطفى ﵇؛ ولذلك ورد عن كثير من أئمة السلف كالإمام أحمد والشافعي والإمام مالك وغيرهم أنهم كانوا يقولون مقولات متشابهة: إن الحق هو هدفي، وما عارضه فاضربوا به عرض الحائط.
قال الإمام مالك: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر الرسول ﷺ، وكان يحدث في مسجد المدينة.
ويقول الشافعي: إذا جاءكم من قولي ما يخالف قول الرسول ﷺ فاضربوا بقولي عرض الحائط.
هذا هو المنهج! إذًا: ما في تعصب، ولكن وللأسف الشديد تجد أن هذه التعصبات موجودة ومنتشرة، فإذا كنت أنا منطويًا تحت لواء حزب معين أو فكر معين أو حتى مذهب معين تجد أنني أتعصب لهذا المذهب.
ومن الطرائف في المسائل الفقهية: أنه يروى عن الأحناف أنهم يقولون: إذا جاء نص من القرآن أو من السنة يخالف ما جاء عن الإمام أبي حنيفة فإن النص إما أن يكون مؤولًا أو منسوخًا! معنى هذا: أن هذا تعصب مقيت، ويوجد في بعض الطوائف: إذا وقع الفأر في إناء كذا وكذا فيه كذا وكذا فلا يجوز أكله، بل لا بد من إلقائه أو بيعه لفرقة كذا أو لمذهب كذا لا داعي لذكره! هذا تعصب، وهذا التعصب نهى عنه الشرع، وبين أن التعصب هنا هو للقرآن وللسنة، فإذا ورد فيه الأمر أخذنا به، وإذا ورد فيه النهى انتهينا عنه.
ورد عن الإمام أحمد قول، ثم رأينا أن هذا القول مخالف لأقوال أئمة أخر، نحن نقول: نحن حنابلة، لكن إذا جاء عالم من العلماء وقال: الإمام أحمد يقول كذا وبقية العلماء يقولون كذا وكذا، ودليلهم هو القوي، ودليل أحمد ضعيف، إذًا نأخذ بدليل هؤلاء الأئمة ولا نأخذ بدليل الإمام أحمد؛ لأننا نبحث عن الحق فهو مظنتنا أيًا كان موقعه.
1 / 12
من منهج السلف في تلقي العقيدة عدم الاقتصار على جزء من النص دون الآخر
النقطة الخامسة: أن السلف رضي الله تعالى عنهم إذا جاءوا إلى النصوص الشرعية لا يقتصرون على جزء دون الجزء الآخر، بل يأخذون النصوص الشرعية كاملة، فإذا جاءوا إلى نصوص شرعية آيات أو أحاديث لا يأخذون بجزء منها ويغضون الطرف عن الجزء الآخر، لا، بل يأخذون الجميع.
فمثلًا: الخوارج فرقة من الفرق، والمرجئة فرق من الفرق وجدت في الزمن القديم، ولا زال لها امتداد في الزمن الحاضر، هذه الطائفة أو تلك الطائفة كل منها أخطأت في مسألة الأخذ بالنصوص، فأخذوا جزءًا وأغفلوا النظر عن جزء آخر.
فالخوارج مثلًا قالوا: ثبت في الصحيح أن الرسول ﷺ يقول: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر) فهذا قلب الإنسان مليء بالإيمان، لكن عنده شيء يسير جدًا من الكبر، فمعنى هذا أن هذا الإنسان لا يدخل الجنة، لكن السرقة، والزنا، والقتل كل ذلك أكبر من شيء يسير من الكبر، فمعنى هذا أنه لم يدخل الجنة، إذًا معنى هذا أنه في النار، وأنه كافر، فكفروا الناس بناءً على هذه القاعدة.
وجاءت طائفة أخرى - المرجئة - وقالوا: يقول الرسول ﷺ: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) يعني: القلب كله فسق وفساد ومعصية إلا نقطة واحدة من إيمان؛ فإنه لا يدخل النار، قالوا: إذًا الحمد لله قلوبنا فيها إيمان أكثر من مثقال ذرة فلنفعل المعاصي والمنكرات والسيئات إلى غير ذلك.
أما السلف فجاءوا بالنص هذا وبالنص هذا وجمعوا بينهما فقالوا: إن حديث الكبر فيه دلالة على التحذير من غلظ الكبر، وأنه من الذنوب الخطيرة، وأن الرسول ﷺ بين أن الإنسان الذي في قلبه جزء بسيط من الكبر إن لم يتعرض لنفحة من نفحات مغفرة الله فإنه سيعذب في النار بقدر ذنبه، ثم يدخل الجنة؛ لأنه لا يخلد في النار مسلم.
وعلى نفس مذهب المرجئة: كثيرًا ما يحصل الإرجاء في مجالسنا، فمثلًا: تجد مجموعة من الناس يتحدثون عن فلان ابن فلان من الناس غيبة، فيأتي شخص ويقول: يا جماعة! اتقوا الله، حرام عليكم، هذه غيبة، قالوا: يا أخي! إن الله غفور رحيم، هذا إرجاء، هذا هو منهج المرجئة تمامًا، وهي فرقة خارجة عن منهج أهل السنة والجماعة.
فعندما يقولون: إن الله غفور رحيم، فلماذا يقطعون النص ويأخذون جزءًا منه ويتركون الباقي؟! إن الله غفور رحيم وإن الله كذلك شديد العقاب، والله ﷾ توعد الذين يغتابون عن طريق آيات ونصوص عن المصطفى ﵇ كثيرة، ومع ذلك فأنت أغفلت النظر إلى هذه النصوص وأخذت بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة:١٧٣].
كذلك أحيانًا من الإرجاء - وهذا يحصل أحيانًا مع الكبار، ومع علية القوم أو الكبار - أن يأتي بعض الناس أو بعض المشايخ أو بعض طلبة العلم أو غيرهم يقولون: شرب الخمر معفو عنه مع الإيمان فإن الصحابة شربوا الخمر، وكان هناك رجل اسمه حمار، كان يشرب الخمر دائمًا، وكان يؤتى به إلى رسول الله ﷺ، فكانوا يجلدونه، وسبه أحدهم؛ فقال الرسول ﷺ: (لا تسبوه، فإنه يحب الله ورسوله) وهو مدمن يشرب الخمر دائمًا.
وعبد الرحمن بن عمر بن الخطاب شرب الخمر في مصر، وكذلك مثلًا يروون أن هناك صحابة زنوا كـ ماعز، والغامدية، هؤلاء زنوا ومع ذلك فالرسول ﷺ قال: (إن هؤلاء في بحبوحة الجنة).
فتجده يأتيه بالنصوص التي فيها وعد وتركيز على العفو والمغفرة، ويترك النصوص التي فيها وعيد وفيها تشديد على من يفعل هذا الفعل، وهذا يعد كذلك من الإرجاء.
1 / 13
من منهج السلف في تلقي العقيدة عدم محاكمة النصوص إلى العقل
النقطة السادسة: أن السلف ما كانوا يأتون إلى النصوص الشرعية فيحاكمونها إلى العقل، وهذا امتداد للنقطة التي ذكرناها في ما يتعلق بعدم التعارض بين النقل والعقل.
أهل السنة لا يأتون إلى النصوص الشرعية ويأخذون النص الشرعي، ثم يحاكمون النص الشرعي بناءً على العقل، يعني: لا يأتون إلى النص ثم يبدءون في دراسته عقلًا، فإن وافق العقل أخذوا به، وإن عارض العقل وجهوه توجيهات مختلفة.
فأهل العقل أصلوا قضايا عقلية عن طريق التلقي من الفكر الغربي اليوناني أو الروماني أو غيرها من الأفكار، ثم بعد ذلك جاءوا إلى القرآن والسنة، وبدءوا يدرسون ما في القرآن والسنة، فإن وافق العقل انتهت القضية، لكن إن عارض العقل ما هو الحل؟ الحل: أن يبقى ما في العقل على أصله ولا يغير، ولكن النص الشرعي هو الذي يغير؛ ولذلك غيروا آيات الصفات، وغيروا آيات الأسماء تأويلًا وتحريفًا وتغييرًا وتبديلًا كالمعتزلة والجهمية والأشاعرة والكرامية والكلابية والماتريدية، وكثير من الطوائف غيروا بناءً على هذه القاعدة.
إذًا: هذه القاعدة تخرج عددًا كبيرًا من الفرق من المنهج السليم، وبالتالي لا يبقى إلا من سار على المنهج الصحيح وهم قلة.
والأمثلة على هذه النقطة كثيرة، وأضرب مثالًا لعله قد يكون فيه بعض الصعوبة: أهل العقل والمعتزلة على رأسهم قالوا: إن الإنسان هو الذي يخلق الشر، الله ﷾ يقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:٩٦].
فيقول هؤلاء: إن الإنسان هو الذي يخلق الشر، والله هو الذي يخلق الخير على منهج المجوس، إذًا: هذا قولهم أصلوه في عقولهم.
ثم جاءوا بآيات القرآن فعرضوها، وإذا بآية تعارض هذا الفكر، وهي قول الله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق:١ - ٢] أمرنا الله أن نتعوذ من الشر الذي خلقه الله، ومن هذا الشر ما ذكر في بقية السورة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق:١ - ٢] هل هذه تعارض فكرهم أو توافقهم؟ تعارضه؛ لأنهم قالوا: إن الإنسان هو الذي خلق الشر، والله ما خلق الشر، الذي خلق الشر هو الإنسان فقط، لكن الآية تقول: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق:١ - ٢] أي: إن الله هو الذي خلق الشر، فماذا فعلوا؟ قاموا وحرفوا الآية، فقالوا: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق:١] (من شرٍّ ما خلق) جعلوا (ما) هنا نافية بدلًا من أن تكون موصولة! إذًا: حرفوا النص حتى يوافق ما ذهبوا إليه، وهناك حادثة طويلة أذكر خلاصتها وهي أن عمرو بن عبيد -وهو من زعماء المعتزلة المشهورين- عارضته سورة المسد، وهو في ذهنه أفكار تتعلق بالقضاء والقدر، فعارضته هذه السورة؛ فأراد أن يحرفها ويغير فيها، فعجز وما استطاع؛ ولذلك ورد عنه أنه قال: وددت لو أحك سورة المسد من المصحف.
لماذا؟ لأنها عارضت فكره المنحرف.
أما السلف الصالح فلا، لا يأتون إلى نصوص عقلية يجعلونها في أذهانهم، ثم يأخذون نصوص الشرع ويحكمونه، لا، وإنما يأخذون نصوص الشرع فيجعلونها في أذهانهم، ثم بعد ذلك يأتون إلى المسائل العقلية، فإن وافقت فبها ونعمت، وإن عارضت ممكن أن توافق النصوص فيما بعد، ممكن أن يعرفها غيرنا، إنما النص الشرعي هو المقدم.
أما النص العقلي فهذا أمر غير مقبول إذا كان هناك تعارض وهمي، والأصل أنه لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح.
هذا ما سمح به الوقت في عرض جزء من منهج السلف في تلقي العقيدة، ونخلص من ذلك إلى: أن السلف رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم هم من سار على هذا المنهج من لدن الرسول ﷺ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن من خالف هذا المنهج فإنه يبتعد عن منهج السلف بمقدار هذه المخالفة.
فهناك أناس خالفوهم مخالفة تامة، فخرجوا حتى عن مسمى الإسلام تمامًا، ككثير من فرق الصوفية وفرق الرافضة وغيرها، وفرق الجهمية وغيرها، والمعتزلة.
وهناك أناس وافقوا السلف في كثير من النقاط ولكنهم خالفوهم في نقاط أخر، فهم يبتعدون عن منهج السلف في وقت ويقتربون بقدر ما أخذوا من هذا المنهج، فيكون بذلك هذا المنهج هو الميزان والمقياس، وهو المعيار الذي نستطيع أن نقيس به ما نراه أمامنا من أفكار عقدية تطرح من قبل أمم أو جماعات أو فرق أو تنطوي تحت لواء الإسلام.
ونحن الآن لا نناقش في عقائد هؤلاء اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، لا، وإنما نتحدث عن كل من تسمى باسم الإسلام، وادعى أنه على المنهج الصحيح نقول: هذا هو المنهج الذي أخذ من القرآن ومن السنة، فإن ابتعدت عنه فقد ابتعدت عن منهج السلف بقدر ابتعادك عنه، وإن اقتربت منه وحققته كاملًا فأنت سائر على منهج السلف، وآخذ بطريق السلف، والله ﷾ الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
1 / 14
الأسئلة
1 / 15
حكم توهم صفات الله بالعقل
السؤال
هل يجوز توهم صفات الله بالعقل؟ وكيف الخلاص ممن يحصل له ذلك ولا يستطيع دفعه؟
الجواب
هذه المسألة لعلي أقربها لك من خلال ما يلي: أنت الآن كم تشكل بالنسبة للرياض؟ أنت نقطة صغيرة ربما لا تشاهد بالنسبة للرياض كعاصمة، وكم تشكل أنت بالنسبة للمملكة؟ وكم تشكل أنت أيها المرء بالنسبة لقارة آسيا بالنسبة للكرة الأرضية؟ أو كم تشكل بالنسبة للمجموعة الشمسية؟! كم تشكل بالنسبة للمجرة التي نعيش فيها؟ وكما يقول علماء الفلك: فإن أمامنا في السماء مئات الآلاف من المجرات، وكل مجرة فيها مئات الآلاف من النجوم! يقول النبي ﷺ في الحديث في الصحيح: (إن السماوات السبع والأرضين بالنسبة إلى الكرسي - أي: كرسي الله - كدراهم - يعني: قروش - ألقيت في فلاة) في بر، في صحراء! تخيل السماوات السبع والأرضين السبع، فكم تشكل أنت الآن بالنسبة للأرض؟ لا شيء، فما بالك بالأرضين السبع والسماوات السبع كدراهم ألقيت في فلاة؟! إذا كان الكرسي العظيم جدًا الذي لا تشكل السماوات والأرض بالنسبة إليه إلا كدراهم ألقيت في فلاة والعرش لا يقدر قدره إلا الله، والله فوق ذلك، فأنت الآن كيف تستطيع أن تتخيل صفة من صفات الله ﷾ وهو بهذه العظمة التي لا يمكن أن تتخيل حتى ما ورد في الحديث، لا يمكن أن تتخيله؟ يعني: الكرسي بالنسبة للعرش، والسماوات السبع بالنسبة للكرسي، والإنسان بالنسبة للأرض، والأرض بالنسبة للمجرات، وهكذا ستجد أن الله ﷾ هو العظيم، ستجد أن الله ﷾ هو الكبير، وستجد أن الله ﷾ هو العلي.
إذًا: هذه الصفات عندما ترد إلى ذهنك ينبغي أن تضع في اعتبارك هذا الأمر، ويحضرني هنا ما ذكره أحد العلماء، يقول: من أراد أن يتخيل صفة من صفات الله فليطبق على نفسه هذه التجربة، يجلس على فراشه، ويخرم البطانية خرمًا صغيرًا ويضعه على عينه، ثم ينظر من خرم البطانية على فتحة الباب حق القفل إن كان من الأقفال الأولى، ثم يوازنها ويقول: يا جماعة! أنا أسمع بقارة اسمها استراليا ولا أشوفها الآن، أين هي؟ فنحن نلاحظ الآن أن القارة بعيدة جدًا وأنت ما عندك إلا إمكانات ضعيفة جدًا، وتريد أن تتخيل هذه القارة الضخمة الكبيرة البعيدة.
إذًا: معنى هذا فأنت إذا أردت أن تتخيل صفات الله ﷾ فضع في اعتبارك هذا الأمر أولًا، ثم ضع في اعتبارك قول الله ﷾: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] فمهما تخيلت أن الله له الصفة الفلانية هذا خطأ، ثم ضع في اعتبارك كذلك أن الله ﷾ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
إذًا: ضع في اعتبارك هذه الأمور، ثم بعد ذلك ضع في اعتبارك قضية أن هذه وسوسة من الشيطان، وأن الرسول ﷺ كذلك أمرك بأن تتعوذ من الشيطان، وتطرد هذه الوسوسة عن قلبك ونفسك، وتتجه إلى شيء آخر؛ حتى لا يزداد فيك الوسواس وينقلب ذلك إلى تأثر أو تأثير فيك.
1 / 16
حكم دراسة علم النفس والمنطق
السؤال
هل تعتبر دراسة علم النفس وما يتبعه من دراسة التقييم الإنساني للدين والأخلاق من علم الكلام؟ وهل هناك فرق بين علم الكلام وعلم المنطق؟
الجواب
أولًا: لدينا علم الكلام وعلم المنطق وعلم النفس.
أما دراسات علم النفس وما يتعلق بالنفس الإنسانية من خوف ورجاء ومحبة وقلق واضطراب وانفصام شخصية وغير ذلك من المسائل، فهذه تدرس في مدارس نفسية متعددة.
فهناك مدارس نفسية غربية، وهناك مدارس نفسية شرقية ترتب هذه المسائل على عقائدهم هم، لكن نحن عندما ندرس قضية الخوف عند الإنسان فهذه مسألة نفسية.
لكن نحن نرتبها الآن: على أن الخوف عند الإنسان ينبع من جملة أشياء منها: الخوف من الله، والخوف من العقاب، والخوف من النار، والخوف من سوء الخاتمة.
إذًا: تلاحظ أننا رتبنا مسائل نفسية على قضايا عقدية، وهذا ليس فيه إشكال، ليس فيه شيء، إذًا: إخضاع المسائل أو القضايا النفسية للمسائل الشرعية هذا أمر مطلوب؛ ولذلك تجد في جامعة الإمام قسمًا خاصًا بعلم النفس، وهو يدرس هذه المسائل من الواقع الإسلامي، فهذا ليس فيه إشكال.
أما علم الكلام: فهو دراسة العقائد وإخضاعها للجوانب العقلانية، فهذا هو علم الكلام.
وأما علم المنطق: فهو استخدام القدرات العقلية والكلامية في الجدل والنقاش في دحض شبهات الخصم ورده، وعلم المنطق منه ما هو ممدوح، وهو قليل، وغالبه مذموم؛ لأنه يستند على المغالطات، فيغالط الإنسان في قضايا، ثم يرد بناءً على ذلك بأسلوب جدلي منطقي فلسفي يؤدي في النهاية إلى اقتناع الخصم بصحة نظرية خصمه، مع العلم أنها خاطئة عن طريق القوة والقدرة والإقناع، وفي الإلقاء والمقاطعة.
إذًا: علم المنطق هنا مذموم في غالبه، وممدوح في جزء منه؛ ولذلك تجد شيخ الإسلام رد على المناطقة في كتابه: نقض المنطق، وكثير من العلماء يردون على المناطقة وأهل المنطق، بل يذمون علم المنطق جملة وتفصيلًا، إلا أقل القليل منهم، وهذا القليل تجد أنهم يركزون أولًا على فهم أساليب المناطقة، حتى يناقشوهم بناءً على ذلك، ثم بعد ذلك تدرس العلوم المنطقية المسموحة والمأذون بها.
1 / 17
نبذة عن تاريخ الفرقة التيجانية ومؤسسها
السؤال
هذا سائل يسأل عن ورد لازم كان موجودًا عند إخوانهم، ولكن الخط سيء جدًا؛ فلم أستطع قراءة هذا الخط، وكأنه يذكر الصلاة على النبي ﵊ مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، وكأن هذا على شيء من شكل جماعي أو نحو ذلك؟
الجواب
نعم، هذا الورد سلمك الله هو ورد الفرقة التيجانية، يقول: اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، ويقول ذلك مائة مرة، ويقال كذا مائة مرة، وغيرها المرات المعروفة، فهذه من أوراد التيجانية، بل ويقولون من الغرائب في هذا الورد أنهم يقولون: من قال: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق ألف مرة في اليوم فإنه - لا حظوا - يدخل الجنة ويدخل معه سبعين من أهل الجنة، ويكون في أعلى عليين، ويكون مع الرسول ﷺ بجانبه، ويكون ويكون ويذكرون فضائل لهذا الورد.
بل ويذكرون أن هذا الورد أفضل من القرآن، أي: ورد قولهم: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق يقولون: أنه أفضل من قراءة القرآن.
ولو رجعت إلى الوراء قليلًا، إلى الفرقة التيجانية التي ظهرت في المغرب العربي، وفي الجزائر في الأصل وفي تونس، وفي المغرب كفروع، فهذه الفرقة - أي: التيجانية - لو دققت النظر فيها لوجدت أنها صنيعة الاستعمار الفرنسي؛ ولذلك زعيم هذه الطائفة المدعو أحمد التيجاني كان من أكبر المخلصين لفرنسا إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر، حتى إن فرنسا لم تجد وسيلة لمكافأته إلا أن تزوجه جاسوسة فرنسية - نسيت اسمها حقيقة - وكانت امرأة جميلة، فأفسدت عقله، واستطاعت أن تخضع الفرقة التيجانية للفكر الفرنسي، فصارت التيجانية مع الفرنسيين ضد المجاهديين الجزائريين الذين يجاهدون ضد الاستعمار.
1 / 18
حكم من احتج على نشر البدع بحديث (من سن في الإسلام سنة حسنة)
السؤال
يقول: بماذا نرد على من يجعل قوله ﷺ: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) حجة في ابتداع بعض الأمور؟
الجواب
نعم.
هذا الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم إلى أن تقوم الساعة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا إلى يوم القيامة).
مثلما قلت قبل قليل: أن السلف يرجعون إلى النصوص كجملة واحدة متكاملة فهناك نص آخر يقول: (وكل بدعة ضلالة)، ونص يقول: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
ونص يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
إذًا: تجد الآن أن هناك نصوصًا تبين أن الإحداث في الدين أمر منكر ومردود، وهذا الحديث يقول: (من سن في الإسلام سنة حسنة) إذًا: لا بد أن نجمع بينها؛ لأن ظاهرها التعارض، والجمع بين هذا كما ذكره أئمة الإسلام أن الدين كامل، وإحداث شيء في الدين جديد هذا غير جائز؛ أخذًا من هذه النصوص.
أما من سن في الإسلام سنة حسنة فإن لها سبب، وهي فيما يتعلق بالأمور الجائزة المشروعة، وسببها: أن الرسول ﷺ رأى أناسًا فقراء من أهل اليمن، فدعا إلى التصدق عليهم في خطبة خطبها ﵇، والناس كانوا واقفين لم يتبرعوا فجاء رجل بعد زمن معين بصرة من تمر، ثم جعلها أمام الرسول ﷺ، ثم توافد الناس يتصدقون، فقال الرسول ﵇: (من سن في الإسلام سنة حسنة)، فهو عبارة عن أمر في مسألة مشروعة كالصدقة أو الدعوة أو الأساليب الدعوية أو غير ذلك مما لا يمس أصول الدين، ولا حتى فروعه، فنكون بذلك قد جمعنا نوعًا ما بين هذا وهذا، وإلا فمسألة الجمع بينهما تحتاج إلى مزيد من التفصيل.
1 / 19
حكم الإكثار من الحلف بالله
السؤال
هناك نساء يكثرن من الحلف بالله على الناس، وبعضهن تقول: قد حلفت أكثر من ثلاثين مرة، وبعضهن على أولادهن كي لا يفعلوا شيئًا أو ليفعلوا شيئًا، وهن يسألن: هل في ذلك كفارة؟ وهن يردن التوبة.
الجواب
أولًا: تعويد الإنسان لسانه على كثرة الحلف هذا أمر نهي عنه، فقد ورد في قول الله تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة:٢٢٤] هذه أصل من الأصول التي ينبغي أن نجعلها أمامنا باستمرار.
ثم إن قضية الحلف الكثير هنا سيجعل الإنسان يستهين به حتى في المسائل التافهة البسطية، وفي المسائل المهمة جدًا، فيجعلها على درجة متساوية، فلا يجعل للحلف تلك القيمة والمنزلة.
النقطة الثالثة: أن الحلف ينقسم إلى أقسام، فهناك اليمين المعروفة الثابتة التي إذا خالفها كفر، وهناك الأيمان التي تعد من باب اللغو، مثل: أن تحلف بطريقة سلسة وسريعة وأنت تحلف عليه كأنك معتاد لهذا الكلام، لكن هذا الأمر الأصل فيه ألا يكثر منه الإنسان، أخذًا بقول الله تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة:٢٢٤].
وهذه المسألة تعد من لغو اليمين: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة:٢٢٥] فتعد من لغو اليمين، لكن الحلف على شيء معين: والله العظيم لأذهبن مع هذا لفعل كذا، والله إن ذهبت من هنا لأفعلن كذا، فذهب، فعليه كفارة معينة حول هذه المسألة، وكلكم تعرفون مسألة الكفارات وما يتعلق بها.
1 / 20