نسيان الله تعالى دافع إلى الأمراض والآفات
إن نسيان الله ﷿ إنما يحصل إذا انشغل الإنسان بحظ نفسه ونصيبها، وهذا الذي يدفعه إلى مراقبة الناس، فينسى ربه وينسى نفسه والعياذ بالله، فلا بد أن يكون وراء كل عمل يعمله، وأن يكون في فكره دائمًا موقفه بين يدي الله ﷿، وبما سوف يجيبه على ما سيسأله ربه ﷾.
نسأل الله ﷿ ألا نناقش الحساب؛ فإنه من نوقش الحساب عذب كما أخبر بذلك الرسول ﵌، ولذلك نقول: إن العبد الذي يكون مع الله ﷾ هو العبد المخلص الذي يراقب نفسه ولا يتركها تطمح وتطمع فيما عند الناس وفيما يقوله الناس، فهذا هو الذي ينجو بإذن الله ﵎، وهو الذي لا ينظر إلى مدح الناس وذمهم، ومدح الناس هو الذي يسعى إليه أكثر الخلق إلا من رحم الله، ومن هنا كان هلاكهم نعوذ بالله من ذلك.
وهذا الذي دفع أناسًا إلى الحسد، وإلى الكفر، وإلى العناد، رغم علمهم بأنه هو الحق، فما الذي دفع كفار قريش إلى أن يكفروا بمحمد ﵊؟ ألم يكن ذلك ما يقوله المشركون: أن بني هاشم سبقوا بأن كان فيهم نبي، فمن أين يكون لنا نبي؟ ولذلك قالوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف:٣١]، فهذا هو الذي يخافون منه ويرجونه، ألم يكن سبب كفر فرعون هو الكبر والعياذ بالله، ورؤية كمال النفس التي هي في الحقيقة من أفقر وأضعف المخلوقات، ولكن الشيطان هو الذي يغذي هذا الأمر في نفس كل إنسان، فمن قاوم هذا الداء أفلح ونجح، ومن ترك نفسه على ما يغذيها به الشيطان كأن يقول له: إنك أنت الأفضل، وأنت الأحسن، وأنت الأعلى، فهذا الذي يغلبه شيطانه، وهو الذي دفع كبر فرعون إلى أن يقول لقومه: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف:٥١ - ٥٢]، فهذه هي المشكلة الواضحة عند فرعون، وهي: هل هو أفضل أم موسى؟ والعقدة في نفسه أن موسى أفضل منه أم هو أفضل؟ فكان كفره بسبب هذا الكبر والعياذ بالله، ولذا قال النبي ﵊: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
والكبر هو الذي أدى بإبليس إلى الكفر والعياذ بالله ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [ص:٧٦]، والنظر إلى النفس بعين الكمال ينافي حال الأنبياء والصالحين، فكيف ينظر إنسان عاقل إلى نفسه على أنه الأكمل وعلى أنه الأحسن، وهو يعلم أن رسول الله ﵌ أكمل الخلق على الإطلاق، وأعلاهم عند الله منزلة، ومن كمال خلقه أنه يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو يستشعر التقصير في السر والعلن، ويستشعر ذلك فيما قدم وفيما أخر من النقص والذنب والخطيئة، وبعد هذا كله يقول: (وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير).
فإذا كان هذا هو حال رسول الله ﷺ القائل للناس: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وهو المعصوم ﵊، الذي لا يتعمد مخالفة أمر الله ﷿ ومعصيته عمدًا بإصرار أو بمعرفة قبل ذلك، وإنما ذنبه ﵊ خطأ أو نسيان، أو ترك لبعض الأولى، أو فتور عن بعض المستحب، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام، فكيف بمن هو دونه؟ وهذه نظرة المؤمن دائمًا إلى نفسه، أن يرى أنه هالك إلا أن يرحمه الله ﷿، وليس عنده عمل يستحق أن يُقبل إلا أن يتفضل الله ﷿ عليه، ولسان حاله يقول في خطابه لربه: ﴿مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾ [يوسف:٨٨].
فما الذي أطمع إخوة يوسف في أن يطلبوا من يوسف هذا الطلب وهي البضاعة المزجاة، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، ومع ذلك كانوا طامعين في كرمه، وقالوا له: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا﴾ [يوسف:٨٨]، فهم يرجون مع بضاعتهم المزجاة كرمه، وأن يوفي لهم الكيل، ولسان حال المؤمن في معاملته لربه ﷿ أن يكون على هذا الحال، وأن يرى نفسه أنه هو المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكنه يطمع في فضل الله وفي رحمته، ألم يقل النبي ﵊: (واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)؟ فانظروا فيما كان الرجاء؟ وعلى ما كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل -مع كونه في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر- ولكنه فيما بينه وبين الله ﷿، وهذا لكمال النقص في الحقيقة؛ ولأنها حققت ما ينبغي أن يكون عليه العبد من العبودية والذل، والاستكانة والإنكسار بين يدي الله، فهو لكمال هذه العبودية رأى النقص والتقصير، ورأى أنه لم يحقق ما عليه.
نسأل الله ﷾ أن يجعلنا من عباده المخلصين.
4 / 4