Уроки шейха Абдурахмана ас-Судайса
دروس للشيخ عبد الرحمن السديس
Жанры
الصلاة ومكانتها وحكم تاركها [١]
إن تقدم الأمم ونهوضها، وسلامتها مما يعوق مسيرتها في طريق الرقي والحضارة يكمن في تمسك أهلها بمادئها ومثلها.
وإن من أعظم شعائر الإسلام الصلاة، ومع ذلك فإن الناظر في واقع كثير من المسلمين، يرى أن الصلاة قد خف قدرها، وطاش ميزانها لدى كثير من الناس مع ما جاء من وعيد شديد يحذر من تركها، ويأمر بإقامتها جماعة.
1 / 1
الترغيب والترهيب في إقامة الصلاة
الحمد لله الذي شرع لعباده أكمل الشرائع، وفرض عليهم أجل الفرائض، وأوجب عليهم من العبادات، ما يصلون به إلى أسمى الغايات، وأنبل المقاصد وأرفع الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، ومجتباه من خلقه ومصطفاه من أنبيائه ورسله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واستقام على سنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله ﵎، واعلموا أن أعظم فرائض الإسلام، بعد صحة العقيدة وسلامة التوحيد، وتجريد العبادة لله وحده، فريضة الصلاة، فالصلاة -يا أمة الإسلام- قِوام هذا الدين، وعموده المتين، وركنه الركين، يقول ﷺ في الحديث المتفق عليه، عن ابن عمر ﵄: ﴿بني الإسلام على خمس﴾ وثنى بالصلاة بعد الشهادتين.
لذا فقد ورد الأمر بالمحافظة عليها وإقامتها في آيات كثيرة، وأحاديث متعددة، قال الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة:٢٣٨] وقال ﷾: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:٤٣] وقال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء:١٠٣].
ومما يجدر التنويه بشأنه، أنه لا يكاد يمر ذكر الصلاة في موضوع من التنزيل إلا مقرونًا بإقامتها، وذلك لأن المقصود منها إقامتها على وفق سنة رسول الله ﷺ، القائل فيما أخرجه البخاري ﵀: ﴿صلوا كما رأيتموني أصلي﴾.
قال الضحاك عن ابن عباس ﵄: [[إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال على الله فيها]].
وقال قتادة: [[إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها]] وليس المقصود منها أداءها فحسب.
1 / 2
حكم تارك الصلاة
وكما جاء الأمر الصريح بإقامتها، فقد جاء الوعيد الشديد، والترهيب الرهيب لمن تركها، أو تساهل فيها، قال الله تعالى مخبرًا عن حال أهل النار: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ [المدثر:٤٢] * ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ [المدثر:٤٣]، وأخبر أن سبب دخولهم النار تركهم الصلاة، وقال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم:٥٩] وقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون:٤ - ٥].
فإذا كانت عقوبة من يؤخر الصلاة عن وقتها، ويتساهل فيها بهذه الكيفية من العذاب الشديد، فكيف بحال من يتركها بالكلية.
وويل: شدة العذاب، وقيل: هو وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من حره، ولا يستحق شرف الإسلام ومكانته من ضيع واجباته وأهمل فرائضه، وعلى رأسها الصلاة.
فتارك الصلاة يا إخوة الإسلام! متعرض لوعيد الله، متسبب في هلاك نفسه وورودها موارد الكافرين والمرتدين -عياذًا بالله- لأن الصلاة هي الفارق بين الكفر والإسلام، والشرك والإيمان.
أخرج الإمام مسلم عن جابر ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: ﴿بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة﴾ وعن بريدة ﵁، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ﴿العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها، فقد كفر﴾ أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن.
وروى الترمذي عن عبد الله بن شقيق ﵀، قال: [[كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة]].
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذكر الصلاة يومًا، فقال: [[من حافظ عليها؛ كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً، ومن لم يحافظ عليها؛ لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف]] وقال عمر ﵁: [[لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]] وقال علي ﵁ وأرضاه: [[من لم يصلِ؛ فهو كافر]].
1 / 3
وجوب إقامة الصلاة جماعة
وقد جاء عن جملة من الصحابة والتابعين أن من ترك صلاة فرض حتى يخرج وقتها متعمدًا، فهو كافرٌ مرتدٌ عن الإسلام، ومما ينبغي التأكيد عليه أن هذه الصلاة، لا بد أن تكون في بيوت الله مع جماعة المسلمين، لقوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:٤٣] ولقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ [النساء:١٠٢].
فأوجب ﷾ الصلاة مع الجماعة في حال الحرب والقتال، فكيف بحال السلم والأمن، ولو كان أحدٌ يعذر في ترك الصلاة جماعةً؛ لكان المصافّون للعدو المهددون بهجومه عليهم، المشاركون في معامع القتال أولى بأن يسمح لهم، فكيف بحال من هو آمن صحيح سليم معافى!
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ، قال: ﴿لقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجالٍ معهم حزمٌ من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار﴾.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ﵁ ﴿أن رجلًا أعمى قال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي ﷺ: هل تسمع النداء للصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب﴾ مع أن هذا رجلٌ أعمى ليس له قائدٌ يقوده إلى المسجد.
وفي رواية: أن بيته بعيدٌ عن المسجد، وأن الطريق إليه مليء بالسباع والهوام، ومع كل هذا؛ لم يرخص له في ترك الجماعة؛ فكيف بحال المبصرين الآمنين القريبين الأصحاء!
وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال: [[من سره أن يلقى الله غدًا مؤمنًا، فليحافظ على هذه الصلوات الخمس، حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم]] إلى أن قال ﵁: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها- يعني: الصلاة مع الجماعة- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]] وسئل ابن عباس ﵄ عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولكنه لا يشهد الجمعة والجماعات، فقال: [[هو في النار]].
1 / 4
تهاون بعض الناس في شأن الصلاة
أخوة العقيدة والإيمان: هكذا سمعنا منزلة الصلاة في الإسلام، ومن العجب أن يجهل قوم من المنتسبين إلى الإسلام قدر هذه الصلوات! أو يتجاهلوها ويتغافلوا عنها، حتى كانت الصلاة عند كثيرٍ منهم إلا من عصم الله من أزهد الأعمال وأقلها قدرًا، لا يقيمون لها وزنًا في حساب أعمالهم، ولا يبذلون لها وقتًا من ساعات أعمالهم، فأي دين لهؤلاء، الذين يدعون الصلاة مع يسر أعمالها، وكثرة ثوابها، وعظم مصالحها ومنافعها، على القلب والبدن والفرد والجماعة؟!
أي دين لمن يتخلف عن أداء الصلاة مع الجماعة بدون عذر شرعي؟!
ولقد عظمت المصيبة، وعمت البلوى في هذا الزمان، من تساهل كثير من الناس في شأن الصلاة مع الجماعة، وصدق فيهم قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾ [مريم:٥٩] حتى فتن أكثرهم- والعياذ بالله- بدنياه وأمواله وبيعه وشرائه، وبعضهم بشبابه وصحته، وبعضهم بمكانته وجاهه، حتى أتى بهم ذلك إلى التكبر على فرائض الله، وإلى التحدي لشعائر الله جل وعلا.
1 / 5
المناصحة لتاركي الصلاة
فليتق الله أولئك الناس! فإن الحياة قصيرة المدى، والموت يأتي بغتة، ثم يحاسبون على أعمالهم، وأول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن صلحت؛ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت؛ فقد خاب وخسر عياذًا بالله!
ولو أن المسلمين المصلين قاموا بواجبهم بالدعوة إلى الله، ومعاملة أولئك المفتونين عن الصلاة معاملة تشعرهم بفساد أعمالهم وخطورة أمرهم، فلم يصاحبوهم، ولم يجالسوهم، ولم يحادثوهم، ولم يتعاملوا معهم في بيع وشراء، ما داموا مصرين على ترك الصلاة؛ لتغير الحال وتحسن الواقع، ولكن الله المستعان! أصبحت عامة موالات الناس لأجل الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا، وإنه واجب المسلمين أن يقيموا هذه الفريضة على وفق سنة رسول الله ﷺ، فلا يخضعوها لأهواء الناس، ولا لآرائهم.
فإن المؤمن يؤديها وهو فرح مستبشر مسرور، والمنافق يتثاقلها، ولا يتحملها، ويود الخلاص منها، ويجب رعاية طهارتها وأركانها وواجباتها، وخشوعها والطمأنينة فيها، كما يتأكد إقامتها في أوقاتها، وترك كل ما يمنع ذلك، وإذا تخلل وقت الصلاة وظيفةٌ، أو دراسةٌ، أو أي عمل من الأعمال؛ فيجب إقامتها في وقتها مع الجماعة، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها.
كما ينبغي أن يدرس بحزم موضوع تاركي الصلاة، المجاهرين بتركها المصرين على ذلك، وذلك بدعوتهم، ومناصحتهم، والإكثار من إرشادهم، فإن لم يجدِ، فتجب مقاطعتهم، وتنفيذ حكم الله فيهم، فترك الصلاة أشد من الوقوع في الزنا، أو السرقة، أو نحوها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفورًا.
1 / 6
عظم قدر الصلاة دليل على عظم قدر الدين عند المسلم
الحمد لله الذي جعل الصلاة عماد الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن حظكم من الإسلام على قدر حظكم من الصلاة، فاحذروا أن تلقوا الله ﷿، ولا قدر للإسلام عندكم، فإن قدر الإسلام في قلب العبد كقدر الصلاة في قلبه، والحديث عن الصلاة يا إخوة الإسلام! يحتاج إلى أوقات كثيرة، ومناسبات متعددة، لعظم مكانتها في الإسلام، ولحاجة الناس اليوم من جراء تساهلهم وجهلهم بأدائها على الوجه الشرعي والنهج النبوي.
نسأل الله أن يعين ويوفق للتنبيه عليها مستقبلًا، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على أفضل البرية وأفضل البشرية نبينا محمد، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا، وسائر بلاد المسلين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن يخافك ويتقيك ويتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
1 / 7
الصلاة ومكانتها وحكم تاركها [٢]
إن الله جل وعلا أنزل هذا الدين، وجعل له أعمدة وأركانا، وإن من أعمدة الإسلام الصلاة التي هي الفيصل بين الإسلام والكفر، ولذا فإن الشيخ في هذه المادة قد بين حكم تارك الصلاة، وحكم إقامتها مع الجماعة، ومكانتها في الإسلام.
2 / 1
مكانة الصلاة في الإسلام
أحمد الله جل وعلا، وأستعينه وأستهديه وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده المصطفى، ورسوله المجتبى، بعثه بالدين الحق والهدى، ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى، ومن سار على نهجه.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله كما أمركم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
إخوة الإيمان في كل مكان: إن تقدم الأمم ونهوضها وسلامتها مما يعوق مسيرتها في طريق الرقي والحضارة، يكمن في تمسك أهلها بمبادئها ومثلها، والتزامهم بمناهجها ونظمها وآدابها، فإذا تخلت عن مقومات حضارتها وعوامل نهضتها، وتركت مبادئ أصالتها وقيم عراقتها، فإنها تتخلى بالتالي عن مقومات الأمن والسعادة، وعوامل النصر والقوة والكرامة، لتغرق في طوفان الفتن والمحن، وتعصف بها أمواج الحوادث والكوارث، وتعمها البلايا والمصائب، والأمة الإسلامية التي من الله عليها بالإسلام، عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا ومنهاجًا، للحياة بأسرها حين تفرط في أمر هذا الدين، وتقصر في أداء شعائره، فإنها تتخلى بذلك عن ضمانات عزها وقوتها ومقومات نصرها وكرامتها؛ لتصبح أمةً ذليلةً مستضعفةً، لا يهدأ لها بال، ولا يقر لها قرار، عقوبة من الله ﷻ لمن أعرض عن ذكره، وتخلى عن أمره، وتكبر على دينه وشرعه، وحينما يستقرئ المرء نصوص الشريعة، ويجيل نظره فيها، يدرك بجلاء حقيقة هذا الأمر وواقعيته.
وعودًا على بدء ثابت نضرب لذلك مثلًا في شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وفريضة من أجل فرائضه ألا وهي الصلاة التي بلغ من رعاية الإسلام لها واهتمامه بها أن الله فرضها على رسوله ﷺ ليلة الإسراء من فوق سبع سماوات، وكانت خاتمة وصيته ﷺ عند آخر عهده من الدنيا.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن أنس ﵁، قال: ﴿كانت عامة وصية رسول الله ﷺ حين حضرته الوفاة، وهو يغرغر بنفسه: الصلاة وما ملكت أيمانكم﴾ كما بلغ من مكانتها وعظم شأنها أن من تركها مستخفًا بها، جاحدًا لفرضيتها، فإنه كافرٌ بإجماع المسلمين.
ومن تركها بالكلية تهاونًا وكسلًا، فإنه كافرٌ على الصحيح من أقوال العلماء التي تعضده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وقد سبق إيرادها والإشارة إليها، ومع هذه المكانة العالية، والقمة السامقة لشأن الصلاة في الإسلام، التي تمثل مكانة الرأس من الجسد، فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له، فكذلك لا دين لمن لا صلاة له، مع هذا كله وغيره مما تهتز له القلوب، وترجف له الأفئدة، وترتعد منه الفرائض نجد تقصيرًا كبيرًا، وتساهلًا عريضًا في شأن الصلاة من كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام.
وإن الناظر في واقع كثير من المسلمين، يرى الصلاة قد خف قدرها، وطاش ميزانها لدى كثير من الناس، بل إن المتأمل ليرجع مجروح الفؤاد حزين النفس حينما يرى ألا اهتمام بها في بعض بقاع المسلمين، وفي أماكنهم العامة إلا من قلة قليلة، وكأن الأمر طبيعي لا غضاضة فيه.
بل وصل الحال ببعضهم أن تأخذ منه الدهشة كل مأخذ حينما يسمع هذه المكانة العالية، وهذا الترهيب المرعب لتارك الصلاة، وما ذلك إلا نتيجة عدم العناية بشعائر الإسلام، والجهل بالدين، وانشغال المسلمين عن دينهم لما غزيت به مجتمعات المسلمين مما يصد عن تعاليم الدين الحنيف.
يا أمة الإسلام! أليس من العجيب أن تضيع أعظم فرائض الإسلام من أبناء الإسلام في بلاد الإسلام؟!
وكيف يرجى لأمة أن تحقق آمالها وتعالج آلامها، وتصلح حالها، وتهزم أعداءها، وقد فرط أهلها في أعظم مقومات النصر، وهو دينها وعقيدتها؟
2 / 2
وجوب إقامة الصلاة جماعة
أمة الإسلام: وحينما يؤكد شأن الصلاة، فإنما يؤكد على إقامتها مع الجماعة في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وقد مرت الأدلة على وجوب الصلاة جماعة، حتى إن بعض أهل العلم جعل الجماعة شرطًا لقبول الصلاة وصحتها حيث لا تصح صلاة من صلى منفردًا من غير عذر شرعي.
يقول عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه: [[ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة، فيتخلف لتخلفهم آخرون، وأن يحضروا الصلاة مع الجماعة، أو لأبعثن عليهم من يجافي رقابهم]].
وإن مما يندى له الجبين إعراض فئامٍ من المسلمين عن الصلاة في المساجد مع الجماعة، فتركوا بذلك الأجر العظيم، والمنافع الجمة، وعرّضوا أنفسهم للوعيد الشديد، فيما آثروا الحياة الدنيا واطمأنوا بها، ونبذوا أوامر الله ورسوله وراء ظهورهم، حين هجروا المساجد وفتنوا بالملاهي والملاعب، والمراكب والمكاتب والمراتب، حتى إن بيوت الله ﷿ لتشكوا إلى ربها هجر العباد لها، حتى أصبحت لا تعرف عند بعض الجهلة إلا في الجمع والأعياد، وفي ذلك خطر عظيم، ومن مؤشرات عظم الخطر، ومظاهر اللامبالاة بأوامر الله ورسله تخلف كثير من الناس عن الصلاة، لا سيما في الأوقات التي يتخللها نوم، أو تتخللها أعمال، وتلك وصمة عار للمسلمين، واتصاف بصفات المنافقين الذين قال الله عنهم: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ [النساء:١٤٢].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: ﴿أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبوًا﴾ ويقول ابن عمر ﵄: [[كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء، أسأنا به الظن أن يكون قد نافق]].
ألا فليعلم ذلك صرعى الشهوات وصرعى السهرات إلى ساعات متأخرة من الليل، على أسوأ بضاعة، وأَنْزل عُدَّة نظرًا واستماعًا، حديثًا واطلاعًا، وليعلم ذلك من تتثاقل رءوسهم عن أداء الصلوات المكتوبات من غير عذر شرعي، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وتاب عليَّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
2 / 3
مراتب الناس تجاه الصلاة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، فلا تسقط على العبد ما دام عقله معه، وما دامت روحه في جسده، والناس فيها على مراتب: فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بإذن الله، فانظر نفسك يا عبد الله! من أي المراتب أنت.
وأنتم يا إخوة الإسلام في هذا البلد الحرام! اشكروا الله ﷿ أن جعلكم في جوار بيته الحرام أفضل البقاع وأقدس الأماكن، خُصت بمضاعفة الصلاة، وسائر الأعمال الصالحة، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، أي: إن الصلاة الواحدة في هذه البقعة المباركة، تعدل عمر خمس وخمسين سنة وأكثر، فيا له من فضل عظيم لمن وفق لإقامة الصلاة على وجهها الشرعي، واحذروا التقصير والتساهل فيها، فإن ذلك أشد من غيره في البقاع الأخرى، ولا يزال للحديث شجون.
أسأل الله ﷿ أن يوفق لإكمالها، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦] وقال ﷺ: ﴿من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا﴾.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وإمامنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة يا أكرم الأكرمين!
اللهم وفق المسلمين قاطبة في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما تحبه وترضاه، اللهم منَّ عليهم بصلاح أحوالهم، اللهم منَّ عليهم بصلاح قادتهم، وعلمائهم، وشبابهم، ونسائهم يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
2 / 4
شهر رمضان
إن الله ﷾ ميز شهر رمضان بأن شرع فيه الصيام، وحث على اغتنام أوقاته بالذكر والطاعات؛ فإن الأجور فيه تضاعف، وذلك لما في هذه العبادة من الإخلاص.
وقد حث الرسول ﷺ على اغتنام هذه الفرصة العظيمة وخاصة في العشر الأواخر منه.
3 / 1
الحث على اغتنام رمضان في الطاعات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، امتنَّ على عباده المؤمنين فهداهم للإسلام، وأتاح لهم أوقات الفضائل ومواسم العبادة ليتزودوا من الأعمال الصالحة، ويتوبوا إلى ربهم من الأعمال السيئة.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، الذي ضرب أروع الأمثلة في اغتنام مواسم الفضائل، والحث على اغتنامها، والتحذير من إضاعتها، نصحًا للأمة وحرصًا على جلب الخير لها، ودفع الشر عنها، فقد كان ﵊ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذي تمسكوا بهديه، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهديهم، واقتفى آثارهم إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون في بيت الله الحرام! أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷿، واغتنام أوقات هذا الشهر المبارك بالأعمال الصالحة، من تلاوة كتاب الله الكريم، الذي أنزل في هذا الشهر العظيم، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة:١٨٥].
ومن ذكر الله ﷿ وتسبيحه، ودعائه واستغفاره، والتوبة إليه، والإنفاق في سبيله، والصدقة على المحتاجين وغير ذلك، فإن شهركم هذا شهرٌ عظيم، تضاعف فيه الحسنات، وترفع فيه الدرجات، وتفتح فيه أبواب الجنات، وتقال فيه العثرات، وتغفر الخطيئات، وتستر الزلات، ولتحذروا -يا عباد الله- من المعاصي، فإنها تقلل أو تقضي على ثواب الصائمين.
3 / 2
الحكمة من مشروعية الصيام
أيها المسلمون: إن الله ﷿، لم يشرع صيام رمضان لحاجته إليه، كلا.
فهو تعالى الغني عما سواه، ولكن شرعه لصالحكم أيها المسلمون! شرعه تربيةً للأجسام وترويضًا لها على الصبر وتحمل الآلام، شرعه تقويمًا للأخلاق وتهذيبًا للنفوس، وتعويدًا لها على ترك الشهوات، والبعد عن المنهيات، شرعه ليعلمنا تنظيم معايشنا، وتوحيد أمورنا، ولتشيع روح التعاون والمساواة والعطف بين المسلمين، فالصوم وسيلةٌ عظمى لتقواه تعالى، وتقواه جماع لخير الدنيا والآخرة، وقد أودع الله فيه من الأسرار والحكم والمصالح الدنيوية والأخروية ما هو فوق تصورات البشر، ورتب عليه تعالى من جزيل الثواب، وعظيم الجزاء، ما لو تصوره الناس، لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان، يقول ﷺ فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ﵁: ﴿كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف﴾.
أيها المسلمون: اتقوا الله، وأدوا فريضة الصيام بإخلاصٍ ورغبة، وصبرٍ وطواعية، فالصوم الحقيقي -يا عباد الله- ليس مجرد الإمساك عن الأكل والشرب والجماع فحسب، ولكنه مع ذلك إمساكٌ وكفٌ عن اللغو والرفث، والغيبة والنميمة، والقيل والقال، والكذب والسباب، إمساكٌ وكفٌ عما لا يحل سماعه، من لهوٍ ولغوٍ وغيرهما، إمساكٌ عن إرسال النظر إلى ما لا يحل، فالصائم حقيقة من خاف الله في عينيه، فلم ينظر بهما نظرةً محرمة، واتقاه تعالى في لسانه، فكفه عن الكذب والشتم والغيبة وكل قولٍ محرم، وخشيه في أذنه، فلم يسمع بها منكرًا، وخشيه في يديه، فمنعهما من السرقة والغش والإيذاء، وخشيه في رجليه، فلم يمشِ بهما ليرتكب منكرًا، وخشيه في قلبه فطهره من الحقد والحسد والغل والبغضاء.
قال جابر بن عبد الله ﵁: [[إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، وليكن عليك سكينةٌ ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء]].
وقال ﷺ فيما أخرجه البخاري ﵀، عن أبي هريرة ﵁: ﴿من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه﴾ ولتحذر المرأة المسلمة الصائمة من التبرج والسفور، وإظهار الزينة والتجول في الأسواق؛ فإن ذلك مما يسبب نقصان أجرها، بل مما يزيد في إثمها، والعياذ بالله!
3 / 3
أقسام الناس في الصيام
أيها المسلمون: إن الناس اليوم منقسمون في الصيام إلى أصنافٍ متعددة، فمنهم من رعى لهذا الشهر حرمته، فصامه وحفظ صيامه، وداوم على القيام والعمل الصالح، فهنيئًا له رحمة الله، ومغفرته وعتقه من النار، ومنهم من لم يرع لهذا الشهر حرمته ولم يقدره قدره، فجعل من نهاره نومًا وكسلًا وخمولًا وبطالة، وجعل من ليله تفننًا في المآكل والمشارب، وسهرًا على ما حرم الله من اللهو وغيره، فهذا يخشى عليه أن يحرم رحمة الله ومغفرته، ومن حرمهما في هذا الشهر، فقد حرم الخير كله.
فاتقوا الله عباد الله! واجعلوا من هذا الشهر شهر جد ٍوعمل وانتصارٍ على النفس والشيطان وسائر الأعداء، فلقد سطر التاريخ الإسلامي انتصارات المسلمين على أعدائهم بأنصع الصفحات في هذا الشهر المبارك، في غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة، وحطين وغيرها من معارك الإسلام الفاصلة.
وإننا لنرجو أن يأتي اليوم الذي ينتصر فيه المؤمنون على أعدائهم من اليهود وغيرهم، وأن يعيدوا للوطن الإسلامي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين المسجد الأقصى المبارك: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم:٢٠].
اللهم تب علينا أجمعين، وبارك لنا في القرآن العظيم وبهدي سيدي المرسلين، واجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم يا رب العالمين!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
3 / 4
فضل العشر الأواخر من رمضان
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده له لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله ﷿ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٨١] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشرع الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: تقربوا إلى الله ﷿ بالعمل الصالح فيما بقي من أيام وليالي هذا الشهر الكريم، فها هو شهركم قد مضى نصفه وكثيرٌ من الناس مُكِبٌّ على شهواته وغفلاته، فليحاسب كلٌ منا نفسه، ماذا قدم من عملٍ صالح؛ فيستمر عليه، وماذا فرط فيما مضى، فيتدارك ما بقي من أيام وليالي في هذا الشهر المبارك.
ومن يدري أيتم هذا الشهر أم يكون من عداد الموتى؟ وتعرضوا -رحمكم الله- لمواطن مغفرة الله ﷿، فإنكم في عشر المغفرة كما أخبر المصطفى ﷺ، واعلموا أنكم تستقبلون عما قريب العشر الأواخر من هذا الشهر العظيم، عشر العتق من النيران، فاستعدوا لها بالعمل الصالح، أسوةً بنبيكم ﷺ، ففي صحيح مسلم عن عائشة ﵂: ﴿أن النبي ﷺ كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها﴾ وفي الصحيحين عنها ﵂ قالت: ﴿كان النبي ﷺ إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظَ أهله﴾.
فاستعدوا يا عباد الله! فإن من اغتنم هذه الأوقات قبل فواتها لعله يحظى بمغفرة الرحمن، والعتق من النيران، والشقي من استمر في غيه وجهله، وضلاله؛ فضيع الأوقات واتبع الشهوات، فيندم حيث لا ينفع الندم.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينا محمد، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦] وقال ﷺ: في الحديث الصحيح في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄: ﴿من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا﴾.
اللهم صلِ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق قادة المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفقهم لتطبيق الشريعة يا أرحم الراحمين!
اللهم احفظ إمامنا بحفظك، واكلأه بعنايتك ورعايتك، وارزقه التسديد والتوفيق لما تحب وترضى، يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اهدِ المسلمين سبل السلام، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأصلح قادتهم وعلماءهم وشبابهم ونساءهم يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اجعلنا من المقبولين، اللهم اجعلنا من المقبولين ولا تردنا خائبين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
3 / 5
عاقبة المكذبين
أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه، وأن يتعظ بما يسمع من أخبار الأولين، وبما يرى من مصائب الآخرين، وقد جرت سنة الله عبر الأزمنة والعصور بفتح بركات السماء والأرض على المؤمنين، وإنزال المحن والبأس على المعرضين.
فأي الفريقين أذكى؟ وأيهما معيشته ضنكى؟ وأيهما عاقبته أنكى؟
هذا بيان ذلك وتفصيله، وتوضيح الموضوع وتأصيله.
4 / 1
عاقبة الإعراض عن الحق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وراقبوه، وتمسكوا بدينه ولا تعصوه، وقد تكفل الله ﷿ لمن تمسك بدينه أن يسعد في الدارين، كما وعد من أعرض عن صراطه المستقيم، وحاد عن سنة نبيه ﷺ بالعذاب والشقاء في العاجل والآجل، وتلك سنة الله في المؤمنين، وسنته في المعرضين، قديمًا وحديثًا ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
ولن يضيع -يا عباد الله- من أخذ العبرة بما يقرأ ويسمع ويرى، مما يجري من الحوادث والعقوبات في القرون الماضية، والأمم الحاضرة، فإن السعيد من وعظ بغيره، والشقي من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يعتبر بما حل ويحل بالأمم المكذبة، فأصر على ما هو فيه من فسادٍ وضلال، حتى يصيبه ما أصابهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد:١١].
4 / 2
إعراض الأمم المكذبة
وفي كتاب الله تعالى من أخبار الأمم المكذبة، وما حل بهم من عذاب الله، ما فيه مزدجر وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكل ما حصل لهم، إنما هو بسبب إعراضهم، وتكذيبهم لرُسل الله، واستمرارهم في ذنوبهم وطغيانهم، يقول تعالى مذكرًا ومنذرًا: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت:٤٠].
4 / 3
إعراض أهل هذا الزمان
أمة الإسلام: إن المتأمل في أحوال المسلمين، في هذا الزمن، يدرك أنهم في حالة خطرٍ شديد، إن لم يستدركوا أمورهم، ويصلحوا ما فسد من أحوالهم، فإننا لا نزال نسمع ما يجري حولنا في البلاد المجاورة، من العقوبات المتنوعة، كالزلال المدمرة، والأعاصير الشديدة، والفيضانات الغامرة، والحروب الطاحنة، والمجاعات الرهيبة، والأمراض الفتاكة، والخوف والشقاء، وانعدام الأمن على الأنفس والأموال والأعراض، وكل هذا يا عباد الله! بسبب ذنوب العباد، وابتعادهم عن دين الله، والتنكر له، والإعراض عن هديه، يقول ﷿: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:٦٩ - ٩٩].
4 / 4