ت به الأذاة وكان الحظ لو قلما
فقلت: إي والله، لقد صدق الفيلسوف، تعاف النفوس لقاء شعوب، وتطلب السلامة من عاديات الخطوب، والأعمار كالأطفال كلما طالت تخللتها الأقذار، واستبشعت رؤيتها الأبصار.
وهكذا أفنيت فحمة الظلام وأنا أنزه النفس بين تلك السطور والكلمات حتى صاح ديك الصباح، فأخذني النوم ولم أنتبه حتى شمر النهار أو كاد، فشمرت إلى الموعد. ولما بلغت المكان المعهود، ألفيت فيه سوريا من صفوة الأدباء كانت لي به صحبة قديمة، فقلت: لأمر ما جلس الأديب تلك الجلسة، واختلس من رقدة الزمان تلك الخلسة، فقال بعد أن هش لرؤيتي وبش للقائي: جلست أبث إلى النيل شكاتي من أبنائه، وأنت تعلم أنهم صارمونا على غير ريبة، وقاطعونا عن غير ذنب، وأصبحوا يرموننا بثقل الظل وجمود النسيم، ولم يرعوا حق الجوار، فسموا إقدامنا قحة، ونشاطنا جشعا، وكدحنا وراء الرزق فضولا، ونزوحنا عن الوطن عارا، وضربنا في الأرض شرودا، وما ذنب من ضاقت عليه بلاده فخرج يلتمس وجوه الرزق في بلاد الله؟ اللهم إنها محاسن عدوها عيوبا، وحسنات سموها ذنوبا:
إذا محاسني اللاتي عرفت بها
كانت ذنوبي فقل لي: كيف أعتذر؟!
وما ذاك إلا لأنا لا نحسن التنكيت، ولا نتقن التبكيت، قلت له وقد وقع في نفسي كلامه، وبلغ مني مقاله: خفض عنك، أيها الأديب، فسأرفع أمرك إلى سطيح، قال: ومن سطيح؟ قلت: إنك لا تلبث أن تسمع كلاما أحلى من الأوبة، وأروح للنفس من مغبة التوبة. ثم أخبرته الخبر، فلبث ينتظر الآية معي حتى لاحت، فأخذنا طريقنا إلى سطيح، وإذا به يقول لصاحبي: «أختان أمهما اللغة العربية، تشرف عليهما الدولة العلية: مصر دار الأمان، وسوريا روضة الجنان. أي فلان، ضع خريطة الأرض بين يديك، ثم أغمض بعد ذلك عينيك، واهو بإصبعك عليها، وانظر نظرة الحكيم إليها، تجد في موقع ذلك الإصبع سوريا يعمل ويبدع. فأنتم أهل العمل والنجدة، وإن كان بأخلاقكم بعض العهدة.
4
يهبط السوري مصر لطلب القوت، فإذا أثرى بكده وعمله، وأراد القفول إلى وطنه، حمل تلك الثروة إلى بلاد الدولة العلية، ويهبطها الرومي فيثرى ما شاء ثم يحاربها بتلك الثروة. ومن العجب أن يكثر القال والقيل، ويدعى الأول بالدخيل، ولم يجر للثاني ذكر على اللسان، وهو الحقيق بالجفاء والعدوان.
أنسي أبناء اللسان العربي أن جماعة السوريين قد بلغوا في نشر اللغة العربية منزلة لم تبلغها جماعة المبشرين في نشر الملة المسيحية؟!
ذكر ابن عقيل ذلك التاجر السائح أنه اتفق له في إحدى سياحاته ببلاد الصين، أن حاول الدخول في مسجد من مساجد المسلمين فيها، فوقف في وجهه خادم المسجد وقال له: إن بيوت الله لا تطأ أرضها الطاهرة قدم غير المسلم، فاخرج منها؛ فإني لك من الناصحين. قال ابن عقيل وقد ساءته قولة الخادم: ومن أين لك الحكم بعدم إسلامي ولم ترني قبل اليوم؟ قال: سمعتك تتكلم بالعربية، ولا نعهد في بلادنا من يتكلم بتلك اللغة إلا جالية السوريين من المسيحيين. ولولا أن شهد بعض من كان حاضرا ممن يعرفون الرجل بصدق إسلامه لحيل بينه وبين الصلاة.
Неизвестная страница