وبات يقلب طرفه في أسطرلاب السياسة، ويحسب تقويم كواكب الرأي في أفق الدهاء، وحدث في ليلته تلك أن فرقة من الجنود السودانية عصفت برءوسها النخوة، فعطفت على الذخيرة فارتدتها قسرا. ولما حاول كبيرهم أن يثني عنها عنانهم، ويحول بينها وبينهم، وفوه قسطه من الأذى، ومازالوا به حتى رنحوه لطما ولكما.
فعظم الأمر على صاحب الأمر، وكادت تنخلع شعبة مهجته هلعا، ويقطع نياط قلبه جزعا، وتمثل له شخص واشنجتون وفي يده علم الاستقلال، وطار به الوهم إلى لاديسميث،
أكنة من الجهل، وكذلك لم نجد له عزما، فجمع إليه نفرا من قومه، وشاورهم في الأمر، فأشاروا عليه بالتماسك، وأن يتراءى للجنود في هيئة المتفقد للشئون، المستخف بالكوارث.
فخرج وهو مقلقل الشخص على جواده لا يصحبه حرس، ولا يماشيه أحد من قومه، وكان معه عند كل جولة يجولها من خاصته من يقوم بتبليغ مشيئته، وإمضاء أمره، فما زال يستقرئ الوجوه والأبصار، وهو كلما مر بقوم تراصفت أقدامهم، والتصقت أيديهم بجباههم، وانتشرت على وجوههم طبقات من الخشوع.
حتى إذا صار بمكان الموقعة، وقد طرح عن منكبه رداء الفزع، نظر فإذا جيش من النسوة يموج بعضهن في بعض، وفي يد كل واحدة منهن هراوة، فما هو إلا أن طلع عليهن حتى عطفن عليه يعبسن بها وجه جواده، فأشفق أن يصيبه عنت منهن، فلوى رأس جواده وأخذ يحتثه هربا، وما زال يركضه ملء فروجه حتى وصل إلى دار حكمه.
فلما آمن في سربه، أصدر مشيئة ثانية بإبقاء الذخيرة في أيدي الجنود حتى يؤتى لهم بسواها من حديثة العهد بالوجود. وبعد أن كان سبب جمعها لوقايتها من الرطوبة، وحفظها من الضياع، أصبح لاستبدال غيرها بها من النافعة عند الدفاع.
فدعت مثنوية رأي الحاكم سوء ظن المحكوم، حتى ذهبت الظنون مذاهبها، وحتى قال أحد الجنود السودانية لكبيره وهو يخطبهم ويدعوهم إلى الامتثال: ألم تعلم أن الله - سبحانه وتعالى - لم يخلق خلقا، ضعيفا كان أو قويا، إلا جعل له من جسمه ما يدرأ به الأذى عن نفسه، وهذه السمكة في قاع البحر قد أنبت لها في ظهرها شوكة تدفع عنها بوادر الشر، فكيف بي وأنا ليس لي ما أذود به الردى عن نفسي إلا تلك الآلة التي نزعتم روحها، فأصبحت كالعصا، وما أردتم بنا الخير، ولكن على كيدنا تعملون.
وفي ذلك اليوم، استدعى صاحب الأمر أصحاب ذلك النادي، وقد طرح عنه الأنفة السكسونية، وتزحزح عن عرش الجبرية البريطانية، وأخذ يروض نفسه على التخلق بأخلاق بني الإنسان، وقال لهم وقد مثلوا بين يديه، وما منعهم إلا من استروح روائح الرفق من شمائله: لقد رفع إلينا خبركم بالأمس، وما خضتم فيه من الحديث، فكدنا نعجل العقاب لولا ما سبقت به شفاعة الحلم، فأنتم وإن أخطأكم عاجل العقاب، فلا يخطئكم آجله إذا عدتم لمثل فعلتكم التي فعلتم، فاذهبوا طلقاء السن، فلولا حداثتها لمثلنا بكم تمثيلا، وإياكم وذكر السياسة، فلستم من المنزلة التي يتناول أهلها الكلام فيها، فانزعوا عن شياطين الصحف، فهي إنما تزين لكم من العمل ما لا تحمد له مغبة، ولا تغتبط عاقبة، ولا يقوم بنفوسكم.
إن الكهرباء الفرنسية تسري في أعصاب أرض وطئتها قدم الإنجليزي، فهي لها الجسم العازل والحد الفاصل، فما غاب عنا أمركم، ولكن سوف تعلمون من منا يحز الودج أسفا، ويقلب الكف ندما ويقول: يا ليتني لم أتخذ مع الجهل سبيلا! ولقد كنتم في ضلة
منه في الذل، فحسبكم ما سمعتم، فما بعد اليوم إلا ما علمتم.
Неизвестная страница