ألا تنتشرون في الأرض فتنظروا حال غيركم من الأمم الإسلامية التي سلط الله عليها ما سلط عليكم. تالله إنكم لتجدونهم بحسرة النظر إلى ابتسامة من ثغر تلك العروس التي جلاها لكم الاحتلال فجهلتم قدرها، ولم تدفعوا مهرها، فلما علم منكم ذلك أقام لكم مكانها عروسا من الشمع يحاول إيهامكم بوجودها؛ كي تخدعوا بالنظر إليها كما خدعتم نيلكم من قبل بعرائس الطين بعد عرائس الحور العين.
فكان مثلكم في ذلك مثل السجين في مكان غاب سجانه وفتح بابه، فهو كلما هم بالانفلات من ذلك السجن نظر في رجله قيدا من الخوف، ولمح على الباب حارسا من الوهم. أف لكم! لقد من الله عليكم بقسم من الحرية لو قسم على المسلمين في الأرض لوسعهم، فخرجتم به عن أفق الحرية الشرعية، ولم تقفوا به عند حد الحرية الفلسفية، بل رسمتم للحرية تعريفا أنكره الشرع، وتسخطت له الفلسفة.
عرفها الأول فقال: إنها تكون في حفظ الدين والعرض والشرف والمال، وأوسعت الثانية دائرة ذلك التعريف فقالت: هي أن يكون المرء حرا في عمله ورأيه، على شريطة ألا يدعو ذلك إلى أذى غيره. فما أعجبكم الأول، ولا راقكم الثاني على ما فيه من التسامح، بل زعمتم أن تعريفها الشافي هو أن يعمل المرء ما شاء أن يعمل، ويرى من رأي ما شاء أن يرى، وأن سبيله في ذلك أن يطرد به جواد الإرادة المطلقة في ميدان الشهوات، لا يبالي داس به آداب ذلك المجتمع الإنساني أم تخطى أعناق الفضائل.
قلت: قد علمت أن الذي نحن فيه لم يكن من الحرية في شيء، فما رأي ولي الله في تلك الصحف التي باتت تنبح بغير فرقان على صاحب الدار والغريب، وتقرض بلا مبالاة عرض البعيد والقريب؟ أيرى في وجودها ضررا محضا أو منفعة خالصة؟ أم هي كالخمر في حاليها قد جمعت بين الإثم والمنافع؛ فوجودها بيننا ضار نافع؟
قال سطيح: لقد نظرت قبل اليوم في هذا السؤال ، وتبينت فيه الهدى من الضلال، فألفيت فيها شرا قائما، وخيرا جاثما، فرأيت أن أزن الاثنين، فلما حملتهما إلى الميزان ونظرت فيه بعين العرفان، شالت كفة النفع والخير، ورجحت كفة الشر والضير.
فقلت: زدني - بارك الله فيك - وأسمعني تأويل ذلك من فيك.
قال: اعلم أنه ما من شيء إلا وفيه منفعة ترجى، ومضرة تخشى. أما وجوه النفع في بقاء تلك الصحف فهي عديدة، إلا أنها لا تكاد تتجلى لغير علماء العمران، والباحثين في ترقية شئون بني الإنسان.
فمنها أن بقاء تلك الصحف على الحال التي هي عليها عنوان على وجود الحرية في البلاد التي تنشر فيها، فإذا قدم عليكم قادم وقرأ ما يكتب في تلك الصحف - كائنا ما كان - علم أنكم تتقلبون في نعيم الحرية، وإن جهلتم أنتم قدر هذه المزية.
ومنها أن فيما تكنيه مزدجرا للناس؛ فإنك لتجد من الموضوعات في تلك الصحف الصغيرة ما لا تجد بعضه في أمهات الصحف الكبيرة. هذه بما في نفسها تصرح، وتلك لا تكاد به تلمح. تكتب الأولى ما يقع للغني والفقير، وتسطر ما يحدث للكبير والصغير، وتأبى الثانية إلا أن تراعي المقام، وتحجم فيما يقع من الحوادث عن الكلام؛ إما لصلة تمنعها، أو لرهبة تقطعها.
ومنها انتشار اللغة في الجملة بانتشار تلك الصحف، فإنك لا تعدم أن تجد في صحائف الأسبوع أسلوبا رقيقا، ومعنى دقيقا يعز وجودهما في صحائف اليوم؛ لاشتغال أهلها بتسقط الأخبار، وضيق وقتهم عن التأنق في الأساليب، والتماس الشائق من التراكيب. أما أصحابنا فلهم من فسحة الوقت ما يكفي لانتقاء اللفظ، واختيار الموضوع، فإذا شاءوا المدح عرضوا ألفاظ اللغة، ونبشوا بطون الكتب، وقلبوا أحشاء القواميس، ثم استخرجوا من الألفاظ أحلاها وأطلاها، ومن المعاني أسماها وأغلاها، وصاغوا من كليهما مدحة تهز الممدوح هزا، وتبز المال منه بزا، وهم إذا خلوا إلى شياطينهم، وأرادوا القدح، فقل أعوذ برب الإنس والجان من شر ذلك اللسان.
Неизвестная страница