أمرت واحدا أن يضرب في الأرض ويسير في مناكبها، فهجر وطنه وأهله في مقتبل عمره، وقطع العالم من المشرق إلى المغرب، وهو يهبط الوديان تارة ويتسلق الجبال أخرى، ويعاشر الوحوش الكاسرة مرة ويعرض نفسه لحيتان البحر مرة ثانية، وكلما وهن عزمه أو هبطت همته دفعت به بيدك القوية دفعة أخرى فتجدد فيه ما أخلقه الضنى وأبلاه الضنك، ولا يزال كذلك حتى يلقى حتفه في أواسط القارة السوداء بين نوع من بني الإنسان لا يأنف أن يأكل الإنسان، حينئذ تضحكين ملء فيك، وتتركين جثته الخامدة. لقد تم لك ما كنت ترغبين ولكن ماذا جنى؟ إنك توعزين إلى أبناء جنسه البسطاء فيقيمون له قبرا عاليا، وينحتون صورته في قطعة من المرمر، ويضعون فوق رأسه أكاليل الغار؛ لأنه كان مكتشفا! •••
وهذا الثاني أسكرته بخمرتك التي إذا ذاقها المرء مرة لا يفيق حياته، وقلدته سيفا، وأركبته جوادا، وأشعلت نفسه بنارك المقدسة، وأودعت عينيه لمعة وضية، وقلت له: اصرخ في الناس يهابوك، ومر الجند يطيعوك، واتبعني أفتح لك الأرض وأقلدك صولجانها وأجلسك على عرشها!
فسار ورفع صوته، فأصغت إليه الأمم، وجرد سيفه فوجمت الجيوش، وحمل على الممالك فتقهقرت أمامه الملوك، أشار بيده فسقطت التيجان من على الرءوس، وانثلت العروش، مخرت جنوده الأنهار وراءه، وشق البحر بمهنده فجف ماؤه، واعتلى صهوة جبال الألب، وأذاب بأنفاسه الحارة جليد روسيا، ووهبوه سيف فردريك الكبير، فقال: سيفي أولى وأجدر بي.
نصب إخوته وأقاربه وأصدقاءه ملوكا، وصير لنفسه في كل مملكة بلاطا، مد يده إلى الشرق فسجد أمامه، بعد أن قهر الغرب فقبل أقدامه.
وهبته القياصرة كنوزها، وخطبت ملكات الأرض رضاه ، وأوشك أن يقول لمن حوله: أنا ربكم الأعلى! ونظر إلى وجهك فرأى بسمة فتانة فسألك، فقلت له: إلى الأمام ولو فوق الأجسام.
إنك كنت لا تزالين تشجعينه؛ لأنك كنت لا تزالين تشتهينه
فنظم الحكومات، وسن القوانين، حفر اسمه في لوح الخلود بجانب اسم صولون وفيثاغور، بعد أن حفره فوق أسماء الإسكندر وقيصر وهنيبال.
ثم ماذا؟ ثم استغنيت فتخليت عنه، فهزمه الأعداء شر هزيمة وهو يقود خير الجنود. يقولون: إنه شاخ فنسي فنون الحرب. كلا، يقولون: إنه ضعف ذهنه وكلت ذاكرته. كلا، يقولون: تكاثر الأعداء، وثبات جأش ولنجتون، وحذق بلوشر. كلا! السبب سهل ولكنه غير معروف.
أنت - يا إلهتي المعبودة المحبوبة - استغنيت فأغضيت، أنت - يا ربة الحكمة الكبرى ويا حافظة السر الأعظم - تخليت فأبليت. أنت - يا فاتنة العظماء، ويا خاذلة الأقوياء، وناصرة الضعاف - تحولت فحولت.
كالمعشوقة الصبية تنهك عاشقها فيشيخ، فتنأى عنه لتقرب فتى جديدا.
Неизвестная страница