الليلة العاشرة
إشراف النفس على المستقبل
كنت أقرأ كتابا في علم النفس، وكانت نفسي تحدثني بأنها تستطيع الإشراف على المستقبل استطاعتها الرجوع إلى الماضي، فلما زارني الروح الحائر سألته في ذلك.
قال: اعلم أن الإشراف على المستقبل هو من معجزات الكون وسر من أسرار الوجود لم يكشف عنه لأحد، ولم يؤت علمه أرفع النفوس قدرا، بيد أن الأرواح إذا صفت استطاعت أن تستنير في الاستنتاج بشعاع من نور الحكمة الربانية، حدث لي في حياتي الأرضية حديث عجيب سأقصه عليك: كنت أسأل نفسي دواما هذا السؤال: «هل بين عواطفنا وميولنا في حياتنا وبين المستقبل الخفي الذي يضمره لنا الموت والفناء علاقة؟» وهذا سؤال حرت في الجواب عليه، ولكن حوادث الأيام علمتني أن هناك رابطة قوية بين الحال والاستقبال، وأن حبلا متينا يربط الحياة بالموت.
كانت حياة صديقي الشاعر دي نافا وقصائده وكتبه ومنزله كلها تنبئ الخبير ببعض أسرار هذا العالم أنه سيموت ميتة فظيعة، وأنه لن يذهب قبل أن يرى الأهوال.
عرفته وعاشرته في بيته الجميل على شاطئ بحيرة جنيف، وقضينا معا ساعات طويلة في حديث لذيذ في السياسة والفنون الجميلة والصحافة والأدب والتاريخ، وتارة كان يريني تحفا وطرائف من صنع المتفننين، وأخرى يسمعني نبذا من كتبه أو ينشد لي شعرا من ديوانه.
رجل قوي جميل ذو هيبة ووقار وهيأة حسنة، له شعر منسدل في مؤخر الرأس ولحية مستديرة؛ فكان وجهه محاطا بالشعر الذي يكسب الرجل منظره الطبيعي ويبعث في قلب من ينظر إليه بالاحترام، كان طويلا بين الرجال، عريض الكتفين كأنه من بقايا أبطال الرومان، أو من هراقلة اليونان، ولا عجب فهو ابن عروس البلاد وأعجوبة المدائن.
كان مع ذلك العظم في الخلق والجلال في الهيئة كالطفل الصغير دعة ولطفا، حلو الحديث، لين العريكة، بطيء الغضب، واسع الصدر؛ وهذه صفات الرجل العظيم.
كان يحدثني هذا الصديق الكريم عن أيام فتوته إذ كان يطلب العلم في مدينته، ويقص علي حوادث حياة الطلاب في المدينة الخالدة، ويصف لي حياة المتفننين من مصورين ونحاتين وموسيقيين وممثلين ممن عرفهم في صباه، ويقص علي وقائعه الغريبة في أحياء باريس القصية في ليالي الشتاء، ثم ينتقل إلى رجوليته وحياته السياسية وتحمسه الشديد للحزب الجمهوري الديموقراطي، ويسمعني نبذا من خطبه التي ألقاها أمام الجماهير المائجة في القرى القريبة من بلده وفي ساحاتها العامة، ثم يصف كيف عرف رئيس حزب الاشتراكيين وكيف وكل إليه هذا رئاسة تحرير جريدته.
كان يعمل في اليوم ثماني عشرة ساعة بين تحرير وتصوير رسوم سياسية ونظم قصائد للمجلات الأدبية.
Неизвестная страница