روى لي صاحبي أن أباه وأهله يملكون سفنا ولهم تجارة حسنة، وأن الطبيب خدعه وسلب لبه وحسن في نظره عيش المدنية، وكان قلبه إذ ذاك قلب فتى لا يفرق بين الحق والباطل، ولا يميز بين الصدق والكذب، فبهره حسن قول الطبيب، وفر معه فرارا رغم أنف أهله، وكانا في سفينة من سفن الجيش، فعجزوا عن رده.
سافر علي مع هذا الطبيب وهو لم يبلغ حد الفتوة، ولكن جوانحه كانت تضم نفسا كبيرة وقلبا كريما، وقد خاناه وغدرا به ولم يحدثاه بما سوف يلقى من صنوف الشقاء وأنواع العذاب الأليم.
روى علي قال: «فلما بلغنا مصر عني الطبيب بتهذيبي وتعليمي لما رآه في من الإقبال على العلم والتفاني في طلبه، وتركني أسرح مع أطفاله، وعدني منهم، وكانت له زوجة كريمة ترق لحالي وترأف بي؛ فأحببتها واتخذتها بديلة عن أمي وأهلي، وتسليت عن إخوتي بأبناء الطبيب، ولكنني ما أوشكت أن أبلغ مبلغ الصبا حتى تغير الطبيب علي، وكنت إذ ذاك أعمل معه في فن الكيمياء وأعاونه في عمله، فلم يكن لي هم إلا تحليل العناصر وتجهيز أنواع الدواء وعمل التجارب العلمية التي هدتني إليها كتب علم الطبيعة. وكنت كلما تقدم سني عاما ازددت غما وهما لسببين ؛ الأول: أني كنت أرى نفسي في موضع لا يليق بي، والثاني: لما طرأ علي من ضعف البدن عقيب تغيير الطقس والمناخ. ولكنني كنت أجاهد جهدي وأكافح ذينك السببين، وأقضي وقتي في تعلم ما أهمل الطبيب تعليمي إياه، حتى بلغت من الطب والكيمياء درجة ارتحت إليها ورضيت بها، وعند ذلك شعرت بقليل من راحة القلب؛ لأن مكاني في بيت الطبيب كان مبهما غامضا؛ فلا أنا فرد من أفراد الأسرة ألتجئ إليها إذا أرغمتني الأيام، ولا أنا عبد أباع وأشرى كما تباع الأنعام، ولا أنا حر مطلق أفعل ما أريد كغيري من الناس، سيما وقد نهاني الطبيب عشرة بنت له كانت يافعة وقد قطعنا أمد الطفولة معا، ودخلنا باب الصبا جنبا إلى جنب وخرجنا من الصبا؛ هي إلى الشباب وأنا إلى الرجولة، فحجبها الطبيب ونهاني عن عشرتها فانتهيت، وأذكر اليوم الذي دعاني فيه الطبيب إليه وقال لي: يا علي، آن لزبيدة أن تحتجب، وآن لنا أن ننظر في أمر تزويجها بمن هو كفؤ لها، فلا يجوز لك منذ اليوم أن تراها أو تعاشرها. فأجبته بالرضا، ونفسي تكاد تحترق وقلبي يوشك أن يمزق.
في هذا اليوم حصحص الحق وزهق الباطل، وعلمت أنني عبد وأن زبيدة حرة، وأنني لست كفئا لها.
فلما بلغت غايتي من الطب والكيمياء شعرت بنسيم الحرية، وقلت في نفسي: لو لم ألق من الطبيب ما أود تركته والتمست الرزق من مورد غير مورده، وهكذا أثر العلم يجعل العبد حرا.
وكنت أقضي زمني في قراءة الكتب ودرسها والتفكه بمطالعة قصص شتى، وأجد لذة كبرى في معالجة المرضى وتخفيف آلام الحزانى والمساكين، وكان لي في ذلك عزاء وسلوى، ولكن قلبي لم يكن يستقر على حال، ونفسي كأنها في وادي التيه هائمة.
وكلما كبرت سنة شعرت بمطاليب وحاجات لم أكن أطلبها، ولكن الطبيب كان كذلك يقسو قلبه شيئا فشيئا ويشتد بأسه علي يوما فيوما، فإذا اشتهت نفسي أمرا جديدا حاربت الطبيب فيه فإذا انتصرت عليه نلته بشق الأنفس وإلا بقيت بدونه فكأنني أكسب حريتي وأستعيد حقوقي المسلوبة شبرا شبرا.
وجاء يوم كان الناس فيه في عيد لهم وليس لدي ما يسترني في أعينهم، وكان المقدار من المال الذي أتقاضاه لا يسد رمقا ولا يستر بدنا؛ فالتمست منه زيادة في الأجر وجزاء على العمل، فخرج معي عن حده، وعز عليه أن يطلب مسلوب حقا، وقال لي: إن حياتي دين له علي. فبهت من سوء فعله، وقلت له: تلك العهود كيف تنساها؟ وتلك المواثيق كيف تخونها؟ ألست أنت الذي خطفتني من أهلي؟! ألست أنت الذي جئت بي من وطني؟! ألست أنت سالب حريتي؟! ألست أنت مسبب هواني ومذلتي؟! ألست أنت الذي استعبدتني وكنت حرا؟! ألست أنت الذي حرمتني من أهلي ووطني؟! ثم عرتني نوبة عصبية فغاب صوابي وفقدت رشدي، ولما أفقت من غشيتي ونظرت في نفسي صحت عزيمتي على التحول عن مكان الذل، فتحولت عنه، وذهبت أضرب في البلد طولا وعرضا حتى هداني الله إلى طبيب آخر ارتضاني معينا له على عمله.
ولكن صاحبي لامني وعتب علي واستغفر من ذنبه، ثم استعان بأصحابي وإخواني؛ فقبلت العودة إليه شريطة أن أنال ما طلبت، فوعدني وعدا مصريا.»
قال الروح الحائر: عرفت صاحبي فوجدت منه أدبا عجيبا دل على طيب منبته، وميلا للعلم، ورأفة بالضعاف، وإشفاقا على المساكين، وكان حسن العشرة، لطيف الكلام، ذكي الفؤاد، لم أسمعه ينطق بقول منفر، وكنت أجلس إليه نقضي أويقات الفراغ في الحديث العذب وقراءة الكتب ومقارنة الأفكار والخواطر، وكان كذلك مكمن سري وموضع ثقتي وإخلاصي، وكان يقص علي ما حدث له مع أصدقائه من صنوف الوفاء والمحبة، وما كان يلقاه من بعضهم من الضر والخديعة، وكان يبوح لي بحبه لزبيدة، وكانت تزوجت، فيقول لي: كنت أحبها وأنا فتى لا أعرف الحب، فكانت إذا انصرفت إلى أمها بعد اللهو واللعب أقبل مواضع أقدامها من الأرض، وأضع أذني على جدار حجرتها أسمع أنفاسها وهي تتردد في سواد الليل البهيم، فيدق قلبي كلما تنفست، حتى إذا تنفس الصبح نهضت وأعدنا ما كان بالأمس من سرور الطفولة وسعادتها، ولما تزوجت كان زوجها يأتي إلي، وهو يجهل ما بقلبي منها، ويقص علي أخبارها وما يشعر به نحوها، وهو يظن أنني جماد لا أحس، وإذا أحسست لا أفهم، وإذا فهمت لا أجسر على الكلام، وقد صبرت في تلك الأيام صبرا يدك الجبال، ولكن ليس بعجيب ممن اعتاد الأسر والذل في سائر صنوف العيش أن يحتملها في الحب الطاهر. قال الروح الحائر: وقد دامت صداقتنا نيفا وثلاث سنين، ثم انتقلت من البلد الذي كنا فيه إلى آخر لطلب العلم، وكنت أعود إليه في المواسم والأعياد، فكان عيدي لقاء علي، ولا عيد لدي سواه، فأسرع إليه وأقص عليه أخباري ويقص علي أخباره، وأعطيه ما قرأت من الكتب ويعطيني ما قرأ، ونعوض ما فاتنا في أيام البعد بمواصلة أوقات الصفاء على ضفة نهر أو في حقل من الحقول، نطالع كتابا أو نتحدث في شأن من الشئون، وفي عيد من الأعياد عدت إلى ذلك البلد وأسرعت كعادتي إلى علي فلم أجده في مكانه، فسألت عنه من يعرف أخباره، فقال لي إنه ذهب ويعود، ثم قال لي إنه مريض. فظننت أنه يشكو داء لا يزول. وإني لكذلك أرقبه وإذا بي أرى شبحا قادما لا يرى منه الرائي إلا عينين براقتين وعظاما مغشاة بجلد أسود، وكان الطقس حارا، ولكن الشبح يتقي البرد بغطاء من الصوف على كتفه وصدره، فتبينت القادم فإذا هو علي، فوجمت لأول وهلة، ولكنني خشيت أن يهوله أمري فيحزن، ولكنه لما دنا مني لم أتمالك نفسي؛ فأجهشت في البكاء، فلما رآني كذلك ابتسم واغرورقت عيناه بالدموع في لحظة، فكان يضحك ويلاطفني تارة، ويكفكف دمعه تارة أخرى.
Неизвестная страница