فقال بضراعة: العفو عند المقدرة من شيم الكرام. - بارعون أنتم في الحفظ والاستشهاد والنفاق، وعلى قدر علمكم يجب أن يكون حسابكم، فالويل لكم.
فقال جمصة البلطي باستعطاف: نحن نخوض صراعا متواصلا مع أنفسنا والناس والحياة، وللصراع ضحايا لا يحيط بهم حصر، والأمل لا ينعدم أبدا في رحمة الرحمن.
فقال العفريت في صرامة: الرحمة لمن يستحق الرحمة، ورحاب الله مفروشة بأزاهير الفرص المتاحة لمن استمسك بالحكمة؛ لذلك لا تحق الرحمة إلا للمجتهدين وإلا أفسدت الروائح الكريهة نقاء الجو المضيء بالنور الإلهي، فلا تعتذر عن الفساد بالفساد. - نحن نؤمن بالرحمة حتى ونحن نضرب الأعناق ونجتز الرءوس. - يا لك من منافق! .. ما عملك؟ - كبير الشرطة. - يا لها من ألقاب! هل تؤدي واجبك بما يرضي الله؟
فقال جمصة بقلق: واجبي أن أنفذ الأوامر. - شعار لا يصلح لتغطية الخبائث. - لا حيلة لي في ذلك. - إذا دعيتم لخير ادعيتم العجز، وإذا دعيتم لشر بادرتم إليه باسم الواجب!
وقع جمصة في حصار محكم، وهفت عليه نذر الوعيد، فتراجع إلى حافة القارب وهو يرتعد .. في ذات الوقت شعر بنفاذ وجود جديد هيمن على المكان، فآمن بمقدم عفريت آخر وأيقن بالضياع .. قال القادم الجديد مخاطبا الأول: هنيئا لك الحرية يا سنجام. - الشكر لله يا قمقام. - لم أرك منذ أكثر من ألف عام. - ما أقصرها بالقياس إلى العمر، وما أطولها إذا انقضت في قمقم! - وقعت أنا أيضا في شباك السحر وهو يضاهي السجن في عذابه. - ما تصيبنا آفة إلا من بني آدم. - في فترة غيابك وقعت أحداث وأحداث، فلعلك يهمك أن تلم بما فاتك. - بلى، ولكني أريد أن أتخذ قرارا نحو هذا الآدمي. - دعنا منه الآن، هيهات أن يفلت من يديك إذا أردته، ولكن لا تتخذ قرارا وأنت حانق، فما هلك منا عفريت إلا فريسة لغضبه، هلم بنا إلى جبل قاف نحتفل بتحريرك.
قال سنجام مخاطبا البلطي: إلى اللقاء يا كبير الشرطة.
مضى الوجود المهيمن يخف، حتى تلاشى تماما .. استرد جمصة حرية أعضائه، ولكنه تهاوى فوق سطح القارب، خائر القوى وثملا بالأمان في آن.
4
وثب جمصة البلطي إلى الشاطئ، فاستقبله العبد منحنيا، ثم مضى يطوي الشبكة وهو يقول: ما في الشبكة سمكة واحدة.
فقال جمصة بريق جاف: أكنت تنظر نحوي وأنا في القارب؟ - طيلة الوقت يا مولاي. - ماذا رأيت؟ - رأيتك وأنت ترمي الشبكة، وأنت تنتظر، ثم وأنت تجذبها؛ لذلك أدهشني أن أجدها فارغة. - ألم تر دخانا ينتشر؟ - كلا يا مولاي. - ألم تسمع صوتا غريبا؟ - كلا. - لعلك غفوت! - أبدا يا مولاي. - ما كان بوسعه أن يشك فيما وقع له .. إنه حقيقي أكثر من الحقيقة نفسها .. وقد حفر في ذاكرته اسم قمقام بمثل القوة التي حفر بها اسم سنجام .. فذكر اعترافات صنعان في صورة جديدة، فخيل إليه أن صديقه القديم راح ضحية تعيسة .. وتساءل بقلق عما يخبئه له الغيب.
Неизвестная страница