جاء دورها لتتعرى كالآخرين .. استسلمت ضعيفة أمام جنونه المقتحم .. انهزم الإغراء كما انهزم التمويه .. ولته ظهرها لتفكر .. تحركت شفتاه بتلاوة خفيفة .. لم تسعفها المقاومة اليائسة .. وزحف عليها ما يشبه النوم الثقيل .. تراخت أعصابها .. تركت تيار التغير يتدفق .. مضت قسمات وجهها تذوب وتنداح فصارت عجينة متورمة .. تقوضت القامة الفارهة وطارت منها الملاحة والرشاقة .. بسرعة عجيبة لم يبق منها إلا نقاط منفصلة .. استحالت دخانا ثم تلاشت غير تاركة أي أثر .. في أعقابها اندثرت الأرائك والوسائد والأبسطة والتحف .. انطفأت القناديل .. فنيت، فساد الظلام .. حمل ركام ثياب الرجال فقذف بها من نافذة، ومضى نحو حجرة الأصونة.
19
قال المجنون يخاطب من في الأصونة: لن أعفيكم من العقاب، ولكني اخترت لكم عقابا ينفعكم ولا يضر العباد.
فتح الأقفال بسرعة، ثم غادر المكان.
20
تسلل الرجال من الأصونة في حذر وإعياء يترنحون من الإرهاق .. لم يفتح أحد منهم فاه من القهر والخجل .. عراة الأجساد عراة الكرامة يتخبطون في الظلام .. يفتشون عن ملابسهم، عن أي ملابس، عن أي شيء يستر العورة .. الوقت يمضي لا يرحم، والنور يقترب، والفضيحة تومض في الظلام .. جالوا في الظلام يستكشفون المكان بأذرعهم الممدودة .. لا أثر لشيء .. لا أثر لحياة .. وهم أو كابوس .. أما الفضيحة فحقيقة .. إنه الذل واليأس .. واسترشدوا بالجدران نحو الباب الخارجي ودبيب الزمن يتلاحق خلفهم .. وما إن تنفسوا هواء الطريق حتى تشهدوا وبعضهم بكي .. المدينة خالية .. فرصة وأي فرصة .. انطلقوا حفاة عرايا في ظلمة الليل .. بصقهم المجد وعلاهم الخزي، وكسا الإثم وجوههم بطبقة من القصدير المذاب.
قوت القلوب
1
كان المجنون يترنم بأوراد الفجر في مطلع الخريف عندما تناهى إليه تحت النخلة صوت ساكن الماء مناديا .. هرع إلى حافة النهر وهو يقول: أهلا بأخي عبد الله البحري ..
فقال الصوت: إني أعجب لشأنك. - لماذا؟ - طالما قتلت المنحرف لانحرافه، فما بالك تجنب الآثمين الفضيحة؟
Неизвестная страница