بسم الله الرحمن الرحيم
ولابُدَّ من شَكْوى إلى ذي مُروءةٍ ... يُواسيكَ أو يُسليكَ أو يتوجَّعُ
(فإنْ كان من باب الُمروءة خاليًا ... يقسيكَ أو يُقصيكَ أو ليس ينفعُ)
أما بعد حمد الله الذي قضى بالمحبة والولوع، وحكم بإحراق كبد كل عاشق وولوع، (وقدَّر) بهوان أهل الهوى، فلم يفرحوا بهجوم الهجوع، وأمر بشقائهم؛ إذ سقاهم كأس والتشوق والتحرق والدموع.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب العلم المزيد، والحلم المديد، والبطش الشديد، والرأي السديد، القائل وقوله يدني من بالغ الحكمة كل بعيد: من عشق، وكتم، وعف (وصبر) فمات، فهو شهيد.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين بذلوا المهج في محبته، ولم يبتغوا غير طريقته، ولم يتبعوا غير سنته، ما هبت نسمات الصبا، فتروح الصب إليها، وتمشت من ديار الأحبة، فجرت دموعه عليها.
فإني أعرف إخواني وأصحابي، وخلاني وأترابي، سلمهم الله (تعالى) من سطوات العشق ونهباته، وروعات الحب وحسراته، ودواعي الهوى وهجومه، وحديث الوجد وقديمه، وولوع القلب واشتغاله، واحتراقه بالهم واشتعاله،
1 / 4
ومرارة فراق الحبيب وفقده، وما يقاسيه المتيم بعد بعده، وما يكابده من تجرع كؤوس هجره وصده، وما يحصل عليه من وجود شتاته وعدم سناته، وما تذكيه نار المحبة من همول مقلتيه، وتصاعد زفراته، وما يبديه الغرام من تواتر أحزانه، وتزايد حسراته، وما يجنيه البعاد من تتابع أنفاسه، وتواصل أناته، فمعانيه مقهور بالأوجاع والأوجال، مأسور بحبائل الفتن وأغلال الإعلال، لا ينهض بمقاساته إلا الفحول من الرجال، ويضعف عنه كل ضعيف (قلب) نشأ في النعيم وفي الدلال، ولقد أجاد من أوضح هذا المقال؛ حيث قال:
هوىً بين الملاحةِ والجمالِ ... يُقاسيه القويُّ من الرِّجالِ
ويضعفُ عنه كُلُّ ضعيفِ قَلْبٍ ... تربَّى في الَّنعيمِ وفي الدَّلالِ
إن أضر ما على الإنسان، في كل زمان، أن يجري طرفه مرخى العنان، فيمرح في ميدان الملاحة والجمال، ويسرح في أفنان اللطافة والدلال، فينظر ما لا يقدر على الصبر عنه النظر إليه، ولا يستطيع الفرار منه عند الزحف عليه، فيرجع بعد النعمة والوقار، إلى موقف المذلة والانكسار، وبعد المناصب والخدم، إلى التوريط والندم، وقد قيل: كم نظرة أعقبت تعبًا وحسرة! وكانت نظرة حلوة، فأعقبت عيشة مرة.
وكان يقطع الليل نومًا ملء جفونه، فصار يقطعه سهرًا
1 / 5
بتصاعد أنينه، وكان قلبه حرًا ويده على العشاق ضارية، فصار قلبه مملوكاّ ودموعه في الهوى جارية، وكان تائهًا على كلِّ متواجد بالخلوِّ، فصار تائهًا لا يعرف القرار ولا السّلو، وكان فائقًا من سكرة الحب ولاعج الغرام، فصار عاشقًا لا يرده العذل ولا يثنيه الملام، وكان ساليًا عن ملاعبة كل حبيب، فصار شاكيًا عن ملازمة كل رقيب، وكان رادعًا كل محب عن الحبائب، فصار واقعًا في مصائد المصائب، وكان عاذلًا فصار عاذرًا، وكان حاذقا فصار حائرًا، وكان مخدومًا فصار خادمًا، وكان مسرورًا فصار واجمًا، وكان ضاحكًا فصار نائحًا، وكان كاتمًا فصار بائحًا، وكان سليمًا فصار سليمًا، وكان كليمًا فصار كليمًا، وكان صحيحًا فصار عليلًا، وكان عزيزًا فصار ذليلًا، وكان ذا عزٍّ فذلَّ، مُذْ سطا عليه جيش الحب من كمينه وحلَّ.
ولطالما أرخى النَّاظر زمام طرفه، متنزَّهاّ في رشاقة معاطف المحبوب وظرفه، متفكهًا في لطافة شمائله متفكرًا في شمائل لطفه، إذ عاد النظر بوبال الناظر وحتفه، وكان كالساعي على حتفه بظلفه، والجالب له الحين من الحين عشقه وعسفه.
ولهذا أمر بغض البصر، ونهى عن إرسال النظر، وقد وقع ذلك في نظم من شرح الحال، وسرح في ميدان التّتُّيم وجال، ونظر نظرةً أعقبت سهرًا ووجدًا، وبات كما قال يشكو من المحبوب بعدًا:
1 / 6
وكنتَ متى أرسلتَ طرفكَ رائدًا ... لقلبكَ يومًا أتبعكَ النَّواظرُ
رأيتَ الذي لا كلُّه أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عَنْ بعضه أنْتَ صابرُ
فصرح بأن من أرسل رائد طرفه، رجع بوبال مرسله وحتفه؛ لأنه يرى مالا قدرة له على كثيره، ولا صبر له عن يسيره.
فأي حال أصعب من هذه الأحوال! وأي سيئ أعظم من مقاساة هذه الأهواء والأهوال! وأي أمر أنكى من مكابدة هذا الخطب الجلي الجليل! وأي بطل يقوي على مقابلة هذا الهم العريض الطويل! وأي شجاع يثبت لنوافث سحر هاتيك! وأي همام يصبر على مناضلة نضال هاتيك الجفون! وأي عين لا تدمع عند معاينة هاتيك القدود العوامل! وأي كبد لا تتقطع عند مشاهدة هاتيك المعاطف والشمائل! وأي قلب لا يذوب عند استماع ذلك المنطق الشهي الرخيم! وأي صب لا يؤوب إلى محاسن تلك الأخلاق التي هي ألطف من مر النسيم! (وأي فؤاد لا يميل عند قوام ذلك الغصن القويم! وأي كبد لا يظمأ عند ريقه الذي هو أحلى من التنسيم! وأي لب لا يدهش لمعاناة هذا الخطر العظيم).
نَظَرتُكَ نظرةً بالخَيفِ كانتْ ... جلاء العين منِّي بل قذاها
فواها كيف تجمعنا اللَّيالي ... وواها مِنْ تفرُّقِنا وآها
على أن العين (هي) التي توقع القلب في التعب، وتوفر نصيبه من أسهم الهم والنصب، وترميه بدواعي الهوان الهوى، وتسلمه إلى
1 / 7
مكايدة الغرام ومكابدة الجوى، فلو عذبت بطول السهر وكثرة الدموع، وبفيض الشؤون وعدم الهجوع، وبمسامرة الأحزان والفكر، وبمراقبة النجوم إلى السحر، وبعدم الإغفاء وطول
السهر، لكان استحقاقها وجود جود الدمع وإن طما، وعدم منال المنام وإنْ نما:
لأُعذِّبَنَّ العينَ غير مُفكِّرٍ ... فيما جَرَتْ بالدَّمْع أو سالتْ دَمَا
ولأهْجُرَنَّ من الرُّقَادِ لذيذَه ... حتَّى يعودَ على الجُفُون مُحرَّمَا
هي أوقَعَتْني في حبائل فتنةٍ ... لو لم تكن نَظَرَتْ لكنتُ مُسَلَّما
سَفَكَتْ دمي فلأسفحنَّ دُمُوعَها ... وهي التي ابتدأتْ فكانتْ أظْلَمَا
وموجب هذه المقدمة الواعظة، والألفاظ التي هي بالتحذير لافظة، أنني خرجتُ في بعض الأيام متفرجًا وسارحًا، وجائلًا بطرفي في الرياض وسائحًا، وصحبتي صديق لي في المحبة صادق، ورفيق لي فيما أروم موافق، قد ملك كل حسن ولطافة، وجمع كل حذق وظرافة، ينتصب لخدمتي لا يمل ولا يسأم، ويتعب في مرضاتي لا يكل ولا يندم، ويجتهد في موافقتي لا يمن ولا ينم، ويحسن في مرافقتي فلا يذم ولا أذم، قد اتخذته جهينة أخباري، وكنزًا لخزائن أسراري، لا أستطيع مفارقة وجهه الجميل، وهو عندي كما قيل:
برُوحي مَنْ لا أستطيع فراقَهُ ... ومَنْ هُو أوفى من أخي وشقيقي
إذا غاب عنِّي لم أزل مُتلفِّتًا ... أدور بعيني نحو كُلِّ طريقِ
1 / 8
فوصلنا إلى البستان قد أخذ زخرفه وتزين، وفاضت عيونه غيرةً من (حُسنِ) نازليه وتلون، تنساب جداول جوانبه كالأراقم، ويضفق النهر (طربًا) لرقص الغصون على غناء الحمائم، ويهب النسيم فينقطها من الظهر بدنانير ودراهم، قد تطاول فيه من البان كل قد مقصوف، وخجل فيه من الورد كل خد موصوف.
فأجلسنا النرجس على عينيه وأحداقه، وظللنا الغصن بستائر أوراقه، وحيانا منثوره الأبيض والأزرق بالأصابع، وفتح كفه الأصفر وهو منا غير أن فاقع، وجرى النهر بين أيدينا متواضعًا بسجوده، وشبب الشحرور بمنقاره لما تغنى الهزار على عوده، قد رق نسيمه وراق، وجذب الحمائم إلى الغناء بالأطواق،
وروى حديثًا تعطرت منه الربى والمسالك، وأهدى من خيام الحب ختام المسك، وفي ذلك:
أظنُّ نسيمَ الرّوض للزهر قد روى ... حديثًا فطابتْ من شذاه المسالكُ
وقال دنا فَصْل الرّبيع فكُلُّه ... ثُغُورٌ لما قال النَّسيم ضواحكُ
قد شاب ذلك الزهر قبل شبابه، وغناه الطير، فتساقط من طربه وإعجابه، وقر عليه النسيم بذيله البليل، فشب حتى عجبنا من حصول
1 / 9
الشفاء من العليل، فيا لها روضة صدحت أطيارها فأطربت الأشجار، وألبستنا ثوب الخلاعة عند خلع العذار:
انْظُرْ إلى الرَّوضِ النَّضيرِ كأنَّما ... نُشِرَتْ عليه ملاءةٌ خضراءُ
أنِّى سَرَحْت بلحظِ عينيكَ لا ترى ... إلاَّ غديرًا جالَ فيه الماءُ
وترى بنفسِكَ عِزَّةً في دوحةٍ ... إذْ فوقَ رأسكَ حيثُ سِرْتَ لواءُ
والماء قد رق وراق، وتسلسل وهو في الإطلاق، وجرى فتكسر، وصفا ولم يتغير، وصاحب النسمات وحالفها، وقاطع الأغصان وخالفها، وأتته الرياح للزيادة من شعابها وهضابها، وسرق حلي الأغصان فضمنها في صدره وجرى بها، والعيون ترمقه في جريه ومسيره، وهو لا يفتر عن تصفيقه وخريره، حتى خشينا عليه التكسير من التمادي، ورجونا من ماء عينيه يروي كل صادي:
يا حُسْنَه من جدولٍ مُتدفِّقٍ ... يلهو برونقِ حُسْنِهِ مَنْ أبصرا
ما زِلتُ أُنذِرهُ عُيُونًا حوله ... خوفًا عليه أن يُصابَ فَيعْثَرا
فأبى وزادَ تماديًا في جَرْيِهِ ... حتَّى هوى من شاهقٍ فتكسَّرا
ولم يزل الطير يسعى بين النهر والغصن في الاتفاق، ويكرر ألحانه، ويراسل في الأوراق، ويجتهد في الصلح ويدعو إليه، ويحرص على الوفاء ويحرض عليه، وقام الشّحرور بينهما واعظًا وخطيبًا، فأجْدَتْ مواعظه، وكان قلب النهر صافيًا
وقريبًا، (فاصطلحا واتفقا، وتلازما واعتنقا)، وقام النَّسرِينُ من السرور على
1 / 10
ساقه، وجذب كل صَدُوحٍ للغناء بأطواقه، وتبسمت من الأقحوان الثغور، وتنسمت نفحات المسك والكافور، واعتل النسيم غيرةً وتغير، فتولى وهو بذيله يتعثَّر، وجعل يجر من الحياء ذيولًا على الأغصان، فتعتنق اعتناق المُواصل الغضبان:
في روضةٍ عَلَّمَ أغصانُها ... أهلَ الهوى العُذْرِيِّ كيف العناقْ
هَّبت بها ريحُ الصَّبَا سحرةً ... فالتفَّتِ الأغصانُ ساقًا بساقْ
وبكى النهر على مواصلة الغصون، وخر لديها وفاضت منه العيون، ومثلها في قلبه شغفًا وحُبَّا، وصار بها من دون الصَّبا صبَّا:
والنَّهرُ قد عَشِقَ الغُصُونَ فلمْ يَزَلْ ... أبدًا يمثلُ شخصَهَا في قلبهِ
حتَّى إذا فطن النَّسيم فجاءهُ ... من غِيرةٍ فأزالها عن قُربِهِ
وغدا عليه مُهَينِمًا بعتابه ... سرًا فجعَّدَ وجْهَهُ من عَتْبِهِ
فلم يزجر النهر عن حب الغصون زاجر ولا عاذل، ولم يجب العذل إلا بدمعه السائل، وصار يرد برد الهوى بحر هواه العذري، وغدا ساعيا بسعادة الأغصان يجري، فقنع منها بأدنى وصال، وربما اقتصر منها في الحب على الخيال:
ونهرٍ بحُبِّ الدَّوحِ أصبح مُغرمًا ... يروحُ ويغدو هائمًا بوِصَالِها
إذا بَعُدَتْ عنه شكا بخريره ... جفاها وأضحى قانعًا بخيالها
1 / 11
فسرحنا الناظر في تلك الربى والرياض، وشرحنا الخاطر في تلك الخمائل والغياض، وأصغينا إلى نغمات طيورها الصَّوادح، واستنشقنا أرجَ نسيمها الفائق الفائح، والأطيار قد أخذت في الأفنان بفنون ألحانها، وخلعت القلوب بشدوها على دفها وعيدانها، وناحت فناجت كل مشوق بأنواع الأشواق، وفرحت وقَرِحَت فأخذت الأحزان عن يعقوب والألحان عن إسحاق، وصدحت فصدعت قلب كل متيم ومشتاق، وشدت فشذت في حسن الرَّمل فهيجت بلابل العشاق، وناحت في
النواحي تشكو ألم الفراق، ولها ألف ألف، ولم تكن كالعاشق المسكين ينوح على غصن القوام، ويبكي على خصرٍ وردف، (وفي هذا المعنى، ما يزيد على المغنى):
وهاتفةٍ في البان تُمْلِي غرافها ... علينا وتتلو من صبابتها صُحُفَا
عجبتُ لها تشكو الفراقَ جهالةً ... وقد جاوبتْ من كُلِّ ناحية إِلفا
فلو صدقتْ فيما تقول من الأسى ... لما لبستْ طوقًا وما خضبتْ كفَّا
ولم يكن عندي - إذ ذاك - باعث غرام، ولا لي همة إلى التّتُّيم والهيام، ولا بي من الشّغف ما يذود عن جفني المنام، ولا بي من الهوى ما يقودني إلى الرّدى بزمام، ولا لي تطلُّع إلى التَّضلُّع من ارتشاف رضاب الثُّغُور، ولا عندي من الحنين ما يشب الجنين إلى ضمَّات
1 / 12
الأرداف والخصور.
أتعجب ممن يهيم وجدًا وحبَّا، وأَنهر سائل الدمع صبا، وأهزأ بمن يعرض نفسه على المحبوب ليستبعدها، وأُكذب بدواهي دواعي الغرام وأستبعدها، وأفوق إلى توبة وجميل سهام ملام، وأُسفه رأي قيس وعُروة بن حزام، وأعد ما نقلوه من أخبارهم كذبًا ومجونًا، وأستبعد من عاقل أن يجلب لنفسه جنونًا، ولا سبيل عليَّ لسُلطان الغرام والسَّهَر، ولا طريق إلى قلبي لفرد غلام ولو كان كألف قمر.
فبينما نحن في هذه اللَّذَّة التي وصفتْ، والعيشة التي راقت وصفتْ، والحالة التي طابتْ وحَلتْ، والخلوة التي من الخيال والخبال خلت، وإذا بجانب الرَّوض قد سطعَ بالأنوار، وتمايل السُّرور من المسار، وصفقَ النّهر طَرَبا، وغنى الحمام وصَبَا، بالأنوار، وتبسمت الأزهار فرحًا واعجابًا، وتعانقت الأغصان بعد أن كانت غضابا، وشممنا أرجًا فاق في الآفاق على المسك الاذفر، ولولا التماسك لطار القلب من الخفقان وفرَّ، فحدقنا نحو تلك الحدائق، لننظر ما هذا الأرج الفائق.
وإذا نحن بغلمان، عدد الكواكب السيارة، قد أهالوا الشمس في الهاله، واخلجوا القمر في الدّارة، من التُّرك الذين فاقوا بالملاحة والجمال، ونهلوا من مياه مناهل (الدَّلِّ) والدلال، قد تجنوا على العاشق، فغدا في حاله مقلقة، وبخلوا بالوصل على الصبِّ بعيون ضيقة، وأحرقوا قلب المتيم
1 / 13
ببرد الثنايا وعذب اللّمى، وأرسلوا إلى مقالته من النَّواظر اسهما، وطعنوه بسمر قدودهم العوامل، وأسروه بلطف هاتيك المعاطف والشمائل، ولم يتركوا لغيرهم فضلة من المحاسن واللطائف، ولم نرَ لغيرهم رقة هاتيكَ الخضور ولا ثقل هاتيكَ الرَّوادف:
لم تترك الأتراكُ بعدَ جمالها ... حُسنًا لمخلوقٍ سواها يُخلَق
جذبوا القسيَّ إلى قسيّ حواجب ... من تحتها نَبْلُ اللَّواحظ ترشقُ
نشروا الشُّعور فكُلُّ قَدٍّ منهم ... لدن عليه من الذَّوائب سنجقُ
لي منهم رشأ إذا قابلتُهُ ... كادتْ لواحظُهُ بسحرٍ تنطقُ
إن شاَء يلقاني بخَلْقٍ واسعٍ ... عند اللِّقاء نهاه طَرْفٌ ضيِّقُ
قد ركبوا الجياد من السوابق، وجذبوا قسيًا، فاستبقت من قدودهم وعيونهم أسهم رواشق، ورموا قلب المحب فلم يخطئه سهم العيون، وخطروا بمعاطف خجلت منها مائسات الغصون، وشدوا مناطق خصورهم، فبهت المتيم وحار، وبرزوا بوجوه تقمر قمر الدُّجى وتكسف شمس النهار. فحين رأيتهم، وقفت ودمعي سائل وسائح، وبهت ولب عقلي ذاهب ورائح، فقال لي صاحبي: أبك خبال أم جنون، أم عشق أرسل من العيون مثل العيون؟!
فقلت: أجل، لقد طار فؤادي على أغصان هذه القدود، وسحرت بنرجس اللواحظ، وفتنت بورد الخدود، وجننت من الوجوه التي سار لها من الحسن أفنان
1 / 14
وفنون، وفتنت بتلك القدود التي أطرقت منها في الرياض الخصون:
وُجُوٌه في قُدُودٍ مائساتٍ ... بأفنان الجمال لها فُنُونُ
فما رِفْقٌ لهُنَّ بذي غرامٍ ... به احتفلتْ من الوَجْد الظُنُونُ
فقيل به خبال مُسْتَمرٌّ ... وقيل أصابه سحْر مبينُ
وقال العارفون ببعض حالي ... هوى هذا وليس به جُنُونُ
ومعذورٌ إذا ما ماتَ وَجْدًا ... على الأقمار تحملها الغُصُونُ
فنظرت إليهم وأطلت النظر، وقد سلبني الهوى ما كان عندي من الثبات والحذر، ونسيت ما تجلبه العين على الفؤاد، وجهلت ما يقاسيه العاشق من رعي السها والسهاد، ولم أخل أن العين للقلب عدو، وأنها تسلبه القرار وتمنعه الهدو:
تمتَّعتُمَا يا مُقلَتَيَّ بنظرةٍ ... فأوردتُما قلبي أمرَّ الموارد
أعيناي كُفَّا عن قتالي فانه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحدٍ
فبدا لي بينهم ظبي كأنه بدرٌّ سافر، أو غزال نافر، فاقهم حُسنًا وظرفًا، وفاتهم رشاقة ولطفًا، قد تقمَّص بالحسن وارتدى بالجمال، وتسربل بالغُنج وتمنطق بالدلال، إن تبدَّى أنكرت البدر في تمامه، أو تثنَّى لم تعرف الغصن من قوامه، أو رنا لم تدرِ أسحرٌ يدا أم نصالُ؟! أو التفت لن تذكرَ بعدها جيدَ الغزال، قد أسهر العاشق بطرفه
1 / 15
الوسنان، وفتن الرامق بقدِّه الفتان، وأطار الفؤاد على مائس غصن قدِّه، وأوهى جلد الكئيب المستهام بحلِّ عقدة بندهِ:
من الترك لو عاينتَ ذُلِّي وعزه ... لعاينتَ مولى لا يرق لعبده
أحبُّ التفاتَ الظبيِّ حبًَّا لجيده ... واعشق غصن البان حبًَّا لقدهِ
رعى الله هاتيك الشمائل أنها ... لبانة من أهوى وغاية قصدهِ
أيا سقمي أعياكَ رقَّة خصره ... ويا جلدي أوهاك عقدة بندهِ
فحين رأيته خطف قلبي، وأضعف صبري، وضاعف كربي، وتهتُ في مهالك الوجد ومهامه الغرام، وبتُ أتفكر في لُطف هاتيك الشمائل وهيف ذلك القوام، وحرت عند معاينة هاتيك العيون الرواشق، وهمتُ في رقة ذلك الخصر وقُراطق
المناطق، وشغلني الهوى عن التماسك والتقيه، وقادني الوجد والغرام قود المطية، وأصبحت بعد ذلك الخلو ملآنًا، وبعد الرقاد مسهدًا سهرانًا، وملت بعد الراحة إلى التعب، وبعد الترفه إلى الشقاء والنصب، ووقعت في مصائد مصائب الوسواس، وهونت ما كنت استصعبه من لوم الناس، وجريت في ميدان التصابي كالصبا، وذهبت في مناكب العشق مذهبا، وأنشدت العواذل، وقد هاجت مني البلابل:
1 / 16
ألا ليقُلْ من شاء ما شاء إنَّما ... يُلامُ الفتى فيما استطاع من الأمرِ
قضى اللهُ حُبَّ المالكَّيةِ فاصطبر ... عليه فقد تجري الأمور علىْ القَدرِ
فدنوت منهم وقد عقد الهوى لساني، وقيد الحب والغرام جناني، وأجرى الوجد دمعي كالمطر، وأسلمني حالي إلى الأسى والسهر، وأنحل العشق جسمي فسار مع النسيم، وصرت مع صاحبي ودمعي بين صديق وحميم.
وقلت: حيا الله هذه الشمائل الحسان، والقدود التي تغار منها موائد الأغصان، والوجوه التي هي بماء الحسن نواضر، والنواظر التي هي شرك النفوس وقيد الخواطر، أما ترثون لصب مستهام، وأسير في قيود الوجد والغرام، وقتيل بالعيون الوقاح، وطعين بالقدود التي هي الرماح، وصريع بمدام المراشف، ولديغ من عقارب السَّوالف.
تملكت العُيُون فؤاده، وذاَدت عن الجفن رقاده، وتركته ذا وجد دائب وقلب ذائب، وسرًَّ مصُان وعقل صائب، وصبر فان، ورأس شائب، ودمع قانٍ، ولون شاحب، هجر الرقاد وكان من أهله، وعدم القرار لذهاب عقله، وترك المناصب وكان من أهلها، ووقع في المصائب أدقها وأجلها.
يقاسي زفرات الأنات والعويل، ويعرضُ نفسه للهم العريض الطويل، ويسامر النجوم السائرات، ويساور الهموم والحسرات:
1 / 17
يبيتُ كما باتَ السَّليم مسهدًا ... وفي قلبه نار يشبُّ لها وَقْدُ
وقد هَجَرَ الخلاَّنَ من غير ما قلى ... وأفردَهُ الهَمُّ الُمبرَّحُ والوَجْدُ
فبادرني منهم ذلك البدر الزاهر، والغصن الناضر، والرشا الشادن، والظبي الفاتن، ذو العيون المراض الصحاح، والجفون الوقار الوقاح، والجبين المشرق الوضاح، والخد المورد الأسيل والجيد الجيد الطويل، والخصر النحيف النحيل، والردف الخارج الثقيل، والثغر الأشنب الرائق، والطرف الأدعج الراشق، والمرشف الزلال، والرضاب القرقفي الحلال، سيد القوم وواسطة عقدهم، وفتنة الخلق وموجد وجدهم، ظبي الكناس ووحش الفلا، محرق القلب ومذيب الكلى، جاذب العاشق إلى الردى بزمام، مبهت الرائق في اعتدال ذلك القوام.
وانتدب فقال بأحسن مقال: وأنت حياك الله ورقاك، وسلمك من دواعي الهوى ووقاك، ولا أسهر لك جفنا من جفاء الحبائب، ولا أوقعك من هجر المحبوب في مصائد المصائب، ولا أحرق لك قلبًا بنار البعد والفراق، ولا أغرق لك جفنا بسيل المدمع المهراق، ولا أشغل فكرك بتجني الحبيب وصده، ولا أذاقك منه مرارة هجره وألم بعده، ولا أسلمك من صدوده إلى العناء والفكر، ولا أوقعك من تجافيه في بحار الأرق والسهر، ولا سلبك رونق الوصال والاجتماع، ولا راعك بيوم التفرق والوداع، بل عطف الله عليك الأعطاف، وأجناك ثمار الوصل دانية القطاف، وأنا لك
1 / 18
حظا من الرقاد الهني، وأنهلك المرشف الزلال الشهي السني، وأضجعك مع المحبوب في فراش واحد، وقلد جيدك منه بمعصم وبساعد، وأباحك لثم الخدود ورشف الثغور، وسرك بحل عقدة البند من الأرداف والخصور، وجمع شملك بمن تحب وتختار، وشمل جمعك بمزار الدنو ودنو المزار.
ثم تحين غفلة أترابه، وركض نحوي بجواده، ففتح لي باب الفرج وأدخلني من باب النصر دار إسعاده، وقال: امض بنا مسرعا إلى آخر باب هذا البستان، واسترنا حتى عن عيون النرجس الغيران؛ لنتشاكى هما كثيرًا في ساعة يسيرة،
ووجدًا طويلًا في جلسة قصيرة.
فسرتُ أمامه منشرح الصدر بتلك الجلسة، مهنا القلب بتلك الخلسة، فنظر يمينًا وشمالًا، وقد تمايل عجبًا ودلالًا، وقال أقمْ حوالينا الحرس، وانحط كالسهم عن ظهر الفرس، واقبلَ يتمايل بقده كالقضيب المائس، ويرنو بطرفه الكحيل الناعس، وقد سارتْ محبته في سائري، ولم يخطرْ سواه بفكري وخاطري:
وافى شبيهَ البَدْرِ يخطرُ مائلًا ... ثملُ القوامِ فديتهُ من خاطرِ
لا شيء أبلغ في هواهُ من الرَّدى ... يا نفسُ دونكِ فاعشَقِيِه وخاطِري
وقال: عهدتك ذا جنان ثابت ونفس أبيه، وعقل مصيب وآراء مضية، فما الذي جشمكَ هذا الموقف العجيب، وسلمك إلى البكاء والنحيب؟! وكيف وقعتَ في أمرٍ كنت تزجر عنه الخلائق، وتزدري منه بكل مهجور وعاشق؟! وكيف غررت بنفسٍ لم تبرح في صيانة،
1 / 19
وأهنتها ولم تكن تعرف الإهانة؟!
وعلام أرخيت رسنها في ميدان الهوى والهوان، وأعطيتها من طلق الخلاعة فاضل العناء والعنان؟!
كيف نسيت المواعظ التي كنت للناس توردها، والحكم التي كنت تنشدها طورًا وتنجدها؟!
فهل صدقت بدواعي الهوى التي كنت تستبعدها، وهل استعبدتك نفس ما برحت تستعبدها؟!
أين مواعظك في كف النظر وإطالته؟! وزواجرك في غض البصر وإجالته؟!
أين تحذيرك من العشق ودواهيه؟! وأين تخويفك من الحب ودواعيه؟!
أين ازدراؤك بالتيم وسقامه؟! أين استهزاؤك بالصب وهيامه؟!
فسقت إلى نفسك بالنظر إلينا تعبا، وحملتها على رغمك وزعمك همًا ونصبا، أما علمت أن قتيل الهوى لا قود على قاتله، ولا حرج على متعمده وفاعله، وأن ثأره
لا يطلب، وفاعله لا يدرك ولا يغلب؟! ألم يقل إمامك الشافعي - رضي الله تعالى عنه - في تهويل هذا المقام والتحذير منه:
خُذُوا بدمي هذا الغزالَ فإنَّه ... رماني بسَهمَيْ مُقلَتَيْه على عَمْدِ
ولا تقتلوهُ إنَّني أنا عبدُهُ ... وفي مذهبي لا يُقتَلُ الحُرُّ بالعبدِ؟!
فقلت له: هذا قدر الله وما شاء فعل، وهذا قضاؤهُ السابق فلا يرد بالحول ولا بالحبل، فانظر إلي بعين الشفقة والرحمة، واجبر كسر قلبي منك بضمة، ولا تتركني مثلًا في البرية، ولا لاحقًا بوحوش البرية.
فتبسم عن ثنايا فضح رونقها عقود الدرر، ورمقني بلحظ يفتن الحور بالحور، وقال: أعندك بالله من المحبة كما ذكرت، ومن التتيم ما أنهيت
1 / 20
وأشرت، وبك من العشق ما يذود عن جفنك المنام، ومن الولوع ما أسلمك إلى الوجد والهيام، ولحقك من الغرام، ما تقول وتدعي المقالة، فأت بها ودع عنك الإطالة، فأنا لا أقبل من الشهود إلا من يظهر لي حاله، وتحسن عندي أقواله وأفعاله.
فقلت له: عندي شهود معروفون بالعدالة، مقبولون عندك في المقالة، يسجلون على قاضي الحب ما يدعيه المشوق، فيرقم تحت كل اسم مقبول أمين ثقة عدل صدوق:
وعندي شُهُود للصَّبابة والأسى ... يُزَكُّونَ دعوايَ إذا جئتُ أدَّعي
سقامي وتسهيدي وشوقي وأنَّتي ... ووَجْدي وأشجاني وحُزْني وأدمعي
فقال: زدني بينه على دعواك، فقد أنكرتُ حالك في محبتك وهواك، وتكثير البينة مما تطمئن إليها النفوس، وتحصل بها العناق والبوس، بعد العناء والبؤس.
فقلت له وشهودي معي، وقد فاضت عيوني بأدمعي:
إنْ كنتَ تنكر حالي والغرام وما ... ألقي وأنَي في دعواي مُتَّهمُ
فاللَّيلُ والويلُ والتَّسهيدُ يشهد لي ... والحُزنُ والدَّمعُ والأشواقُ والسّقمُ
فقال: الآن علمنا حالك، فإن شهودك عدول، وأن ليس لما ذكرت من الأشجان عندك عدوزل، ولكنني أريد منك يمينًا لست فيها تمين، بأن عندك من الحنين ما يشيب الجنين، وأني عندك من جميع الخلق أعز، وفي عينيك أحلى الناس وأبز، وأن وصالي أحب إليك من الدنيا
1 / 21
وما فيها، وأن رضابي ورضائي أحلى لنفسك من أمانيها، وأن هواي قد ملك منك الفؤاد، وأسلمك إلى الأرق والسهاد.
فقلت: ومن زين صبح الجبين بليل الشعر، وجمل سحر العيون بالكحل والحور، وغرس في عذب المراشف صغار الدرر، وخلق أقمارًا أرضية أبهى من الشمس وأحسن من القمر، وألسع كل متيم بعقارب السوالف، وأسكر كل صب بصهباء المراشف، وخلق خدودًا أطرى من الورد وأظرف، وأشهى من الخمر وألطف، لا تفتر عن الحمرة والتخجيل، ولا تصلح لغير العض والتقبيل.
وزين الثغور بيواقيت الشفاه، وجعل رضابها دواء كل صب وصفاه، وأبدع في إجادة الأجياد والأعناق، وجعلها سببا لزوال العناء عند العناق، وأعدم الخصور وأوجد الأرداف، وأبدع في زخرف مناطقها على الأحقاف.
إنك عندي أعز من بصري وسمعي، وأحب إلي من سروري ونفعي، وأحلى في عيني من جميع النسمات، وألطف عندي من هبوب النسمات، أجتهد في خدمتك فوق الاستطاعة، وأقابل أوامركَ بالامتثال والطاعة:
لأجلكَ سعيي واجتهادي وخدمتي ... ويا ليت هذا كُلَّهُ فيكَ يُثمرُ
1 / 22
تبعتُ الذي يُرضيكَ في كُلَّ حالةٍ ... وإنْ كنتَ لم تبصرْهُ فاللهُ يُبصرُ
فواللهِ ما بعدي مُحبٌّ ومُشفق ... وسوف إذا جرَّبتَ غيري تذكرُ
فما شئتَ من أمر فسمعًا وطاعة ... فما تمَّ إلا ما تُحبُّ وتأمرُ
عليَّ بأنَيّ لا أخلُّ بخدمتي ... وأبذلُ مجهودي وأنتَ الُمخيَّرُ
فتبسم عجبًا، وتثنى طربًا، وقال: إن صدقت دعواك في محبتنا، وصحت أقوالك
في مودتنا، فلا تحل عن المحبة الصادقة، ولا تشم للسلو بارقة، ومت على تلك المحبة وابعث، فإنها ألطف لشمائلك وأدمث، وليكن لك في موت هوى الجميل الجميلة، فالموت لابد منه وما الردى حيلة:
مُتْ راشدًا ولك الجميلةُ في الهوى ... فالموت في غير الهوى لا يحسنُ
(إن الغرامَ هو الحياةُ فعش بهِ ... عيشًا هنيًَّا أنتَ فيه محسنُ)
فقلت له: اُقسمُ بقدِّكَ الأهيف النضير، وجبينك المشرق المنير، وطرفك الفاتن الفاتر، ولحظك الساجي الساحر، وشعرك السود الحالك، وصدغك الأرقم الفاتك، وخدك الأحمر الناعم، وثغرك الأشنب الباسم، وريقك المستعذب الصافي، وحسنك الوافر الوافي.
ورد خدك الجنيّ، ونرجس لحظك البابلي، ودرُّ ثغرك اليتيم، وغصن قدك القويم، ورقة خصرك السقيم النحيل، ودَص ردفك الثقيل، وذل مصارع العشاق، وحل سحر مواقع الأحداق، وزورتك التي من غير كلفه ولا ميعاد، وطيب ما أودعت من الهوى في صحيح الفؤاد، لا حلت عن المحبة في الحياة ولا بعد الموت، ولا رجعت عن الوداد ولا سَلَوْت:
1 / 23