ودارت الحجرة في عينيها مرة أخرى، واختلط السواد بالبياض، والإنسان بالجماد، والمساحات بالأحجام، وظهرت لها من حيث لا تدري صورتها وهي طفلة التاسعة من عمرها تسير في شارع طويل، وقد أرادت أن تعرف إلى أي شيء ينتهي، لكنها وجدت نفسها فجأة في مفترق طرق كثيرة متعددة فضلت طريقها إلى البيت، وأخذت تسير في الشوارع وهي تبكي حتى عثروا عليها بمحض الصدفة.
ولما فتحت عينيها لم تجد الطبيب، وتلفتت حولها في دهشة، وخيل إليها لحظة أنها كانت تحلم حلما فظيعا، وكادت تقفز من السرير من فرحة الخلاص والنجاة، لكن عينيها ارتطمتا بالجدران الرمادية وسرير الفحص الجلدي، فعادت اليد الحديدية تقبض على قلبها.
واختلط عليها الواقع بالحلم، فرفعت ذراعها تتحسس صدرها، ولما عثرت أصابعها على الكرة اليابسة الكئيبة تأكد لها الواقع المشئوم، وجثم الذهول والحيرة على قلبها وعقلها.
كيف يمكن أن تعيش وهي تعلم أنها ستموت؟ ولكن كل الناس يعلمون أنهم سيموتون، ولكنهم لا يعلمون متى يموتون، وما داموا لا يعلمون فهم لا يصدقون، وما داموا لا يصدقون فهم ينسون، وما داموا ينسون فهم يعيشون.
وشعرت بشيء يلتف حول عنقها كأنما يخنق أنفاسها، فهبت من رقدتها وجرت إلى النافذة وفتحتها، وملأت صدرها من هواء الشارع، وأعاد لها الهواء الرطب المنعش بعض الحيوية والتفاؤل، وطمأنتها حركة الناس في الشارع على استمرار الحياة، فابتعد عن ذهنها بعض الشيء شبح الموت الكئيب.
واختطفت معطفها من فوق سرير الفحص، وغادرت المستشفى بسرعة دون أن تلقي نظرة على حجرة الطبيب، ومشت في الشارع تلتصق بالناس السائرين، تلتمس في دفئهم وحماستهم الرغبة في الحياة، وتنسى مع اندفاعهم وسرعتهم ذكرى النهاية الرهيبة، ووجدت نفسها تجري مع الناس، تجري كأنما تريد أن تلحق بقطار أو تصل إلى موعد هام، ولم يكن هناك قطار ولا موعد؛ لكنها استسلمت للجري بلا هدف، كأنما الحركة في حد ذاتها أصبحت هدفا.
وأخذت تحرك ذراعيها وساقيها في الهواء في اهتزازات عنيفة، تريد أن تسقط عن خلايا عقلها فكرة الفناء البشعة، أو تريد أن تفصل عن خلايا صدرها خلايا الموت اليابسة.
وشعرت بشيء من الراحة إثر ذلك المجهود الكبير، وسارت على مهل تتأمل الشجر والماء، وتملأ صدرها بالهواء الرطب العليل، ولمحت زهرة بيضاء جميلة على جانب الطريق، فوقفت أمامها تتأملها، ولمست أصابعها نسيجها المخملي الناعم، فشعرت بنشوة غريبة، وقربت أنفها تشم عطرها الزكي، فأحست بسعادة تغمر قلبها وروحها، وتلفتت حولها مفتونة، وأسكرتها زرقة السماء العميقة منعكسة على سطح الماء الوادع، فجلست على شاطئ البحر وخلعت حذاءها ومددت جسدها على العشب المبلل الرطب.
وتراءى لها وسط الزرقة الفاتنة وجه طويل نحيل، وملامح هادئة باسمة، وعينان زرقاوان عميقتان، وأخذت تتأمل الوجه كما كانت تتأمله، وتغيب في أعماق العينين كما كانت تغيب، ويهمس صوتها الحالم باسمه كما كان يهمس، وامتدت يدها بلا وعي إلى جيبها وأخرجت ورقة صغيرة وراحت تتأمل كلماته إليها، وقلبت الورقة في يدها وأخذت تتحسسها بأصابعها، وعاد إلى أناملها من حيث لا تدري ملمس الكرة اليابسة في صدرها، وجاءتها كلمات الطبيب الكئيبة من مكان بعيد من ذاكرتها، وضغطت أصابعها على الورقة في دهشة.
كيف تبقى هذه الورقة الصغيرة الرقيقة بينما هي تموت؟
Неизвестная страница