قصة بقي بن مخلد مع العلم
هذا أحد الإخوة أيضًا يسأل عن بقي بن مخلد ﵀؟ نقول: هذا الرجل قطع سنتين سيرًا على الأقدام إلى أن وصل إلى أحمد بن حنبل فوجده محبوسًا، وكيف احتال حتى وصل إلى أحمد بن حنبل ﵀ بعد أن أُخرج من السجن ومُنع من التدريس، وبدأ يتعلم منه على مدار شهور وسنوات، وفي نهاية قصته عاد بقي بن مخلد ﵀ بعد ذلك إلى الأندلس، بعد أن جاب البلاد طولًا وعرضًا، فهو ذاهب في مشواره هذا إلى بغداد، ثم عاد إلى الشام وتعلم على أيدي علماء الشام، ونزل المدينة ومكة المكرمة، ثم اتجه إلى مصر، وأخذ من كل مكان علمًا، ثم عاد إلى الأندلس، وبدأ يسجل علمه فكتب مسند بقي بن مخلد، وهذا مسند أحاديث روى فيه عن (١٣٠٠) صحابي، فقد سمع من الناس الذين سمعوا ممن سمع من الصحابة الذين كانوا في العراق، وسمع من الناس الذين سمعوا ممن سمع من الصحابة الذين كانوا في المدينة، والذين كانوا في مكة، والذين كانوا في الشام ومصر، ففي مسنده (٣٠٩٦٩) حديثًا، فمسنده أكثر وأكبر من مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي تتلمذ على يديه في بغداد، ووصل إلى درجة عالية جدًا من الفقه والعلم والتفسير والحديث ﵀، أي: أنه كان متميزًا في أكثر من فرع من فروع العلم، وهذا المشوار الذي قطعه لم يذهب هباء منثورًا أبدًا، والتعب الذي لاقاه والمعيشة الصعبة التي مر بها والأيام الشديدة التي مرت عليه في بغداد وهو يتظاهر بالتسول، حتى يستطيع أن يأخذ حديثًا واحدًا أو حديثين أو ثلاثة من أحمد بن حنبل ﵀، كل هذا لم يذهب سدى فقد عمل به المسند.
قال ابن حزم ﵀ الإمام الفقيه المسلم المشهور: ما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته - أي: ثقة بقي بن مخلد - وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فقد روى عن (٢٨٤) رجلًا ليس فيهم عشرة ضعفاء.
أي: أنه كان ينتقي الرجال الذين كان يروي عنهم، فكان يسأل عن الرجال ويدقق ﵀.
وقال ابن كثير: كان علامة، وكان فقيهًا صوّامًا قوّامًا متبتلًا، ثم يقول: وكان عديم المثل هذا تعديل ووصف ابن كثير له ﵏ جميعًا.
وقال الذهبي في حقه: ومن الثابت أن من مناقبه أنه كان من كبار المجاهدين في سبيل الله، يقال: شهد (٧٠) معركة في سبيل الله، ففي الأندلس كانت هناك حروب كثيرة مع الصليبيين في الأندلس، ولم يكن منقطعًا فقط للعلوم، بل كان متفوقًا كـ أسد بن الفرات الذي نشر مذهب الإمام مالك في شمال إفريقيا كله وفي الأندلس، وهو أيضًا الذي فتح صقلية، ومات شهيدًا ﵀.
انظر إلى هذا التفوق في أكثر من مجال، فهناك بركة في حياتهم، وإنجاز في كل مجال، فالله ﷿ يفتح هذه البركات على من يرضى عنه، فيحدث ما لا تتوقعه، وإن شاء الله في المحاضرة القادمة التي سنتحدث فيها عن عنصر هام جدًا من العناصر المميزة لأي عالم، وسيتضح لنا الإنجاز المعجز حقيقة لكثير من علماء المسلمين، سواء في علوم الشرع أو في علوم الحياة.
ويقول ابن حزم ﵀: أقطع أنه لم يؤلَّف في الإسلام مثل تفسير بقي بن مخلد ﵀.
إذًا: الجهد الذي بذله لم يضع، فالله ﷾ بارك فيه، وانتفع المسلمون به، وسينتفعون إن شاء الله إلى يوم القيامة بجهد هؤلاء العلماء.
6 / 9