ونحن نعرف أن ناصر خسرو، الرحالة الفارسي المشهور طاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، بعد أن ترك وطنه في وقت انتشرت فيه الاضطرابات، واشتد النزاع بين أمراء الأقاليم المختلفة؛ ولكنه رأى نفس البؤس في كل البلاد التي زارها، اللهم إلا في مصر: فقد وجد رخاء عظيما، وأسواقا عامرة، وتحفا فنية نادرة، وهدوءا شاملا،
2
وكان ذلك في عهد الدولة الفاطمية، الإسماعيلية المذهب، وظن ناصر خسرو أن الفضل في رخاء مصر راجع إلى المذهب الإسماعيلي، وأن هذا المذهب كفيل بإنقاذ العالم الإسلامي، فلم يلبث ناصر أن اتصل ببعض رؤساء الشيعة الإسماعيلية في مصر، واعتنق مذهبهم. والظاهر أن الخليفة المستنصر بالله أحسن استقباله، وكلفه بأن يدعو لمذهب الإسماعيلية في خراسان.
3
وقد وصف ناصر خسرو مدينة القاهرة المعزية - نسبة إلى المعز لدين الله الفاطمي - وصفا شائقا. وقدر أنها في ذلك الوقت (بين سنتي 439 و441 هجرية؛ أي: 1047 و1049 ميلادية) كانت قد ثبت عمارتها، وأصبح فيها ما لا يقل عن عشرين ألف دكان، كلها ملك السلطان، وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير في الشهر، وليس بينها إلا قليل تبلغ أجرته في الشهر دينارين، وكان فيها من الخانات والحمامات ما لا يمكن حصره، وكانت كلها ملك السلطان.
4
أما قصر السلطان نفسه فقد كان في وسط القاهرة، وبينه وبين الأبنية المحيطة به فضاء يفصله عنها، وكان يحرسه في الليل خمسمائة حارس من الفرسان، وخمسمائة حارس من الرجالة، وكانت أسواره عالية؛ فلا يستطيع أحد رؤيته من داخل المدينة، بينما يبدو من خارجها كالجبل، وكان في القصر ألوف من الخدم والنساء والجواري، وله عشر بوابات فوق الأرض، وباب يقود إلى ممر تحت الأرض، يعبره الخليفة راكبا ليصل إلى قصر آخر، وكان كل كبار الموظفين في قصور الخليفة من الروم أو السود.
وقال ناصر خسرو: إن مدينة القاهرة كان لها خمسة أبواب كبيرة: باب النصر، وباب الفتوح، وباب زويلة، وباب القنطرة، وباب الخليج،
5
ولم يكن بالمدينة سور محصن،
Неизвестная страница