وما كذلك البكاء! فللبكاء قوة يتخطى بها الحواجز والسدود، البكاء إنساني عام، فما يبكي إنسانا في أقصى الأرض من طرف، يبكي زميله الإنسان في أقصاها من الطرف الآخر، وما قد أسال الدمع في عهد مينا وخوفو لا يزال حتى اليوم قادرا على إسالة الدموع. إنه ليقال عن «ماكولي» - وفي القول مبالغة جميلة - إنه كان يقرأ الإلياذة يوما وهو سائر في الطريق، فلما طالع موت هكتور سحت عبراته على وجهه، فهل يمكن أن نسمع عن أديب آخر، أخذ يقرأ ملهاة لأرستوفان وهو سائر في الطريق فإذا هو يضحك حتى يشق الضحك جنبيه؟! •••
وإذا كان من علائم الشخصية القوية أن تصمد للهجمات الضاحكة يشنها عليك أبناء الأمة جزاء خروجك على أوضاعهم، فماذا أنت قائل في رجل يجعل نفسه هو الضاحك الساخر بأبناء بلده أجمعين؟
فلعلك قد رأيت كيف يتفاوت الناس في روح الفكاهة، فمنهم من إذا ضحكت منه «مات في جلده» - كما يقولون - ومنهم من يرد الضحك بضحك أقوى، وما يزال كذلك حتى يرتد سهم السخرية إلى نحر الساخر الأول ... وهكذا يكون موقف الساخر العظيم من أمته: يشذ عن أوضاع الناس، فيسخر منه الناس، فيرد السخرية بسخرية أمضى، حتى تنتهي المعركة، فإذا هو واقف وحده في الميدان، يضحك ويسخر، وجموع الناس من حوله تضحك معه وتسخر، وإنما يضحكون عندئذ ويسخرون من ذوات أنفسهم!
من أمثال هؤلاء الساخرين الأفذاذ فولتير، وسويفت، ودكنز، وشو ... ومنهم - وكدت أقول على رأس الساخرين جميعا في العالم طرا - أديب ياباني أمره في السخرية عجب، هو «جيبنشا إيكو» - هذا الذي أدقعه الفقر بين قومه، فهزأ ساخرا بالفقر وبقومه معا، لم يكن في بيته أثاث، فعلق على جدرانه العارية صورا للأثاث الذي كان يشتريه لو استطاع! وفي أيام المواسم الدينية كان يضحي للآلهة بصور فيها رسوم للقرابين التي كان يتقدم بها إلى هؤلاء الآلهة لو كان عنده المال!
لم يكن «إيكو» يصيب من كتبه مالا، فكان رقيق الحال رث الثياب، وحدث مرة أن جاءه الناشر يزوره في بيته، وكان هذا الناشر يرتدي ثوبا جميلا فاخرا، فما زال به الأديب المتفكه حتى أغراه بالاستحمام - وكان اليوم عيدا - وما إن وقع الناشر في الفخ حتى لبس صاحبنا ثيابه تلك الجميلة الفاخرة، وراح يزور بها كل من عرفهم من أهل وأصدقاء.
ولما كان «إيكو» في فراش موته، التمس من تلاميذه أن يضعوا على جثمانه قبل إحراقه بضع لفائف أعطاهم إياها في وقار وجد، وجاءه الموت، وفرغ المصلون من تلاوة الدعوات ، وأشعل الحطب الذي أعد لإحراق جثته ، ووضعت اللفائف على جسده بين ألسنة النار، وإذا بها تحتوي على صواريخ، أخذت تطقطق في مرح ونشوة، وراحت تنطلق في الهواء رسوما ملونة، فلم يسع الحاضرين إلا الضحك، بعد أن كانوا من رهبة الموت في حزن وخشوع، كأنما أراد هذا الساخر العظيم أن يلطم الناس لطمة قوية تؤلب عليهم ضمائرهم، التي أهملته حيا، وجاءت الآن تصطنع الهم والاهتمام أمام جثمانه!
ابتسامة السخرية أداة في يد الأديب القادر، يصلح بها ما قد فسد عند الناس من طرائق العيش والتفكير، ويكاد يستحيل ألا تسخر من جماعة إلا إذا كنت في أعماقك راضيا عن أسلوبها ... ولك أن تسأل بعد ذلك: أين في أدبائنا الأديب الساخر؟
أنتيجونا
إلى أي الجانبين ننتصر إذا نشأ التعارض ونشب الصراع: أننتصر لذوي القربى من أبناء الأسرة، أم للقانون الذي يمثل الأمة جميعا؟
وكثيرا جدا ما ينشأ ذلك التعارض وهذا الصراع في صدور الأفراد؛ لأن كل فرد هو في الوقت نفسه عضو من أسرة وفرد في أمة، وقد يحدث أن يجيء فعله مواتيا لصالح أسرته وأمته معا، لكن قد يحدث كذلك أن يكون الفعل الذي يخدم صالح أسرته مناهضا لصالح الأمة، والفعل الذي يخدم صالح الأمة مناهضا لصالح الأسرة، فإلى أي الجانبين ينبغي له أن يتحيز وينتصر؟
Неизвестная страница