وكذلك تتحكم فينا نظرة الدود في علاقتنا بعضنا ببعض، فقد أوصينا برعاية ذوي القربى ورعاية الجار، ولو سألنا: من هم ذوو القربى ومن هو الجار الذي تجب علينا رعايته؟ كان الجواب عند الدودة غيره عند الطائر: «القربى» عند الدودة هي «القرب» المكاني الزماني، فلا قرابة إلا لمن التصق بجلدك التصاقا ليدخل في نطاق نظرك الضيق، وإلا فلو بعد قليلا فلا سبيل إلى رؤيته وإدراكه؛ لأن الوجه منكفئ نحو الأرض فلا يرى، وكذلك الجار هو من تمد يدك فتلمسه إلى جوارك، لكن الطير حين يرتفع ويتسع نطاق إدراكه، تزداد في عينه المسافة من مكان وزمان، ويصبح «البعيد» في الحقيقة «قريبا»، فذوو قرباه عندئذ يزداد عددهم، كما يزداد عدد جيرانه.
إن أصحاب النظرة البدائية الإقليمية المحدودة هم الذين يحسبون القربى محصورة في الأسرة وأفرادها، ويحسبون الجوار في تلاصق جدران المنازل، وإذا علوت بنظرك، أصبحت الأمة كلها من ذوي قرباك، وأصبح الشعب كله جيرانك، ثم إذا ازددت ارتفاعا حتى تقرب من مواضع الآلهة، كان ذوو القربى هم الإنسانية كلها، وكان الجيران هم أفراد البشر جميعا.
إنه لمما يستوقف النظر في هذا الصدد، أن الفلاسفة الذين كتبوا في الدولة المثلى، تفاوت في أعينهم الحجم بتفاوت أزمانهم، فأفلاطون يرى الدولة المثلى في «مدينة» واحدة؛ لأنه لم يكن يتصور أن التماسك الاجتماعي ممكن إذا اتسعت رقعة البلاد اتساعا يجاوز بها حدود المدينة، وهو في ذلك بغير شك صادر عن تفكير عصره السياسي والأخلاقي معا، فكأنما الإنسان عنده قد ضاق به الخيال حتى ليعجز عن مؤاخاة إنسان آخر في مدينة أخرى، وجاء «توماس مور» في عصر النهضة الأوروبية فكتب في الدولة المثلى، وجعلها جزيرة لا مدينة؛ لأن الأفق الإنساني كان قد اتسع بعض الشيء، ثم جاء بعد ذلك من الكتاب الأوروبيين - مثل أوجست كونت وصموئيل بتلر - من جعل الدولة المثلى هي أوروبا جميعا بعد أن تتحد دولها كلها في دولة واحدة، وهي دعوة شبيهة بما يدعو إليه فريق من ساسة هذا العصر. وأخيرا جاء «ولز» وكتب كتابا في الدولة المثلى فجعل حدودها الكرة الأرضية بأسرها. وهكذا ترى الطائر يزداد ارتفاعا على مر الزمن، فيزداد أفقه اتساعا.
أعتقد أننا نصيب إذا قلنا إن نظرة الطائر علامة من علامات التقدم والرقي، ونظرة الدودة دليل على التأخر والبدائية.
ترى في أي مرحلة نحن من مراحل الطريق؟
تمثال فيدياس
في محاورة «هبياس الكبير» لأفلاطون، يدور نقاش بين سقراط وهبياس عن الجمال ما هو؟ ويستطرد الحوار بينهما سؤالا وجوابا، حتى يبلغ موضعا يدور فيه الكلام على الصورة الآتية:
هبياس :
لو كان، يا سقراط، كل ما يريده مني السائل عن معنى الجمال، أن أدله على شيء يخلع الفتنة على كل الأشياء الفاتنة، بحيث يبدو الجميل جميلا إذا ما أضيف إليه ذلك الشيء، فليس أيسر من الإجابة عن مثل هذا السؤال، ولا بد أن يكون السائل في هذه الحالة غاية في السذاجة والفقر في ذوقه الفني؛ لأنك إذا أجبته عن سؤاله يقولك: إن الجمال الذي يسأل عنه، إن هو إلا الذهب، أخرسه الجواب ولم يستطع أن يقيم له اعتراضا؛ لأننا جميعا - فيما أظن - متفقون على أن الشيء إذا طلي بالذهب، حتى وإن كان قبيحا قبل طلائه، فسيبدو جميلا بعد إضافة الذهب إليه.
سقراط :
Неизвестная страница