عالم قلق
ترى هل شهد التاريخ كله فترة اشتد فيها القلق كما يشتد في هذه الفترة التي يجتازها العالم اليوم؟ لست أدري، فليس يعيش الآن على وجه الأرض إنسان واحد قرير العين مطمئن النفس هادئ البال.
إنها فترة كفاح وجهاد وحرب وقتال؛ فالشعوب المغلوبة تحاول أن تقف على أقدامها، والشعوب الغالبة تريد الثبات في مواقفها، والدول القوية بعضها مع بعض تصطرع ابتغاء السلطان والسيادة ... والغالب والمغلوب والسيد والمسود جميعا قد ضاقت نفوسهم، واكفهرت الدنيا من حولهم، فاشتدت بهم الرغبة في شيء يؤمنون به - أي شيء كائنا ما كان؛ لذلك كثرت بيننا المذاهب الفكرية، والمعتقدات السياسية، كثرة لا نحسب أن قد سبق لها نظير في عصور التاريخ الماضية.
فقد يحس الفرد منا إزاء ما شمل العالم من قلق واضطراب أنه لا ينبغي له أن يجلس أمام مسرح الحوادث رائيا سامعا لا يعمل شيئا، وأن نفسه لا تستريح وضميره لن يرضى إلا إذا قام بنصيب - لا بد مهما يكن ضئيلا - في إعادة البناء المنهار، لكنه إذا ما هم بالعمل أدرك من فوره أنه لا بد له من جماعة ينضم إليها؛ لأن مجهود الفرد الواحدة هباءة لا تغني ولا تسمن، ولا يبعد أن يقع على أقرب جماعة منه دون أن يفكر طويلا في هل تعمل هذه الجماعة التي ينضم إليها في سبيل ما ينشده هو لنفسه ولسائر الناس، أم أنها تعمل في طريق يعكس له أهدافه المنشودة؟ لكنه قلق يريد أن يعمل شيئا وحسبه ذاك؛ لأن النار قد أوشكت أن تأتي على الحياة كلها، أخضرها ويابسها على السواء، فكثرت الأحزاب والهيئات والجماعات في أنحاء العالم كثرة - كما أسلفت - منقطعة النظير.
إن النفوس القلقة تدفع أصحابها إلى العمل، تدفعهم إلى العمل السريع، فتراهم يغذون السير ويحثون الخطى؛ لأن السير المتمهل لا يكفي والخطو البطيء مضيعة للفرض؛ ولذلك امتلأت أركان الدنيا بالنظريات المتطرفة والمشروعات الجريئة، والانقلابات السريعة ... قل ذلك في الأمم وفي الأفراد على السواء، إن الربح البطيء المطرد الثابت لم يعد يرضي النفوس المتعطشة العجلى، انظر إلى عالم التجارة والأعمال تجد ألوفا من الناس ينزلقون على السفوح المثلوجة انزلاقا سريعا، إنهم لا يقنعون بالخطوات الوئيدة على الأرض الصلبة الثابتة، فالحياة قصيرة المدى والجو مكهرب من حولهم، ففيم الوقوف والتمهل والانتظار؟ إن السلامة لم تعد في التأني، فإلى الغاية المنشودة انزلاقا، ولئن سقط في المعمعان رجل فإلى جانبه ألف رجل بالغون المدى.
إن العالم اليوم في لهفة عجيبة يكتنفه الظلام، فينشد الضوء مهما يكن مصدره، فلكل صائح أتباع أيا ما كانت صيحته، ولكل داع مستجيبون مهما تكن دعوته، لقد تقسمت الدعوات الكثيرة سكان الأرض بصفة عامة، وأهل أوروبا المعاصرة لنا اليوم بصفة خاصة، فيها الآن مائة مذهب ومذهب، هذا داع يدعو إلى الرجوع إلى حظيرة الدين فيستمع إلى دعوته فريق، وذلك داع يدعو إلى طرح الإيمان الساذج والاستمساك بالعقل وحده فيستمع إليه فريق آخر، وذلك ثالث يهيب بالناس أن عودوا إلى غرائزكم فأشبعوها؛ لأن الحياة الطبيعية هي أسلم الحياة، فيستجيب له فريق ثالث، ثم هذه ديمقراطية وتلك اشتراكية، وهذه شيوعية وتلك ديكتاتورية عسكرية، وهلم جرا ... ذلك كله لأن الناس قد ضاقوا ذرعا بما هم فيه، ويريدون التغيير؛ أي تغيير.
وكان مما زاد مرارة طعم الحياة في أفواه الناس، أنهم فتحوا أعينهم على الواقع، بعد أن كانت أعينهم مغمضة لسبب أو لآخر، أقول لسبب أو لآخر؛ لأن السبب لم يكن واحدا بالنسبة للناس أجمعين، إذ كان العالم حتى عهد قريب ينقسم قسمين رئيسيين، فإما أغنياء قد طفحت بيوتهم بأسباب النعمة والرخاء، وإما فقراء يكدحون في سبيل لقمة العيش وخرقة الثياب، فأما الأغنياء فقد ألهاهم التكاثر وأعماهم الغنى، فلم يروا من الحياة إلا مطاعم تفوح وصالونات تتألق، وأما الفقراء فقد أشقاهم الكدح المتصل عن التفكير في أنفسهم أو في غير أنفسهم، فالدنيا كلها في أعينهم فأس تضرب الأرض بياض النهار، وكوخ معتم سواد الليل، ومن ثم استقرت الحياة بهؤلاء وأولئك، وبدا عليهم الرضى، أما اليوم، فمعظم الناس - في أغلب أنحاء الدنيا - طبقة متوسطة، ليس لديها الثراء الذي يلهي ويعمي، ولا الفقر الذي يهلك ويحطم، فوقفوا بين بين، يعملون ساعة وينظرون إلى ما حولهم ساعة، فتفتحت عيونهم على الواقع كما هو، فإذا الواقع علقم وحنظل، وإذا الضرورة الملحة تقضي بتغيير ذلك الواقع المرير في أسرع وقت مستطاع ... فنشأت بذلك عند الناس لهفة نحو انقلاب الأوضاع، ومن ثم كثرت الأحزاب والجماعات وتنوعت الآراء والمذاهب.
ألا تسمعهم يصفون لك هذا العصر بأنه عصر السرعة؟ إنها ليست سرعة القطارات والطائرات وكفى، بل هي السرعة التي انتابت النفوس في لهفتها على تغيير حالها؛ ولذلك تراه عصرا يتميز بكثرة المعايير الخلقية والجمالية، إنه لا يستقر على معيار واحد يرضي الناس جميعا، لأنه عصر قلق وتغيير، فهذا يأخذ بمعيار جديد، وذلك يظل مستمسكا بمعيار قديم، وثالث يأخذ بالقديم تارة وبالجديد طورا، وكلهم مخلص فيما يأخذ به، فهم جميعا متفقون على شيء واحد، هو ضرورة تغيير الأوضاع الراهنة لأنها لا ترضي أحدا.
إننا نعيش في عالم قلق، يفزع أهله أن تضيع من وقتهم لحظة سدى، لأنهم مسرعون، متلهفون، يغذون السير ويحثون الخطى، وكان حتما أن يساير التفكير هذه السرعة ويماشيها، فلم يعد الوقت يتسع عند الكثيرين لقصة طويلة يكتبها لهم أديب هادئ الفكر طويل البال؛ لأن الأمر لم يعد تسلية ولهوا، بل هو جد وعزم وصرامة، وإذا فأجدى على أصحاب الفكر أن يتجهوا بفكرهم نحو شيء آخر غير الأدب الذي خلق للفراغ والمتعة، فإن كان حتما أن يكتب لنا أديب، فلتكن كتابته أقصوصة قصيرة للترام أو القطار، فإن أطال فليتجه بإنتاجه نحو السينما، لنرى قصته ساعة استرخاء، بأقل مجهود ممكن ... لكن الله قد أراد لنفر من الناس أن يكونوا أدباء على رغم هذا الصراخ كله وهذه العجلة كلها، فماذا عساهم يكتبون ليرضوا أنفسهم؟ إن العالم من حولهم قلق مضطرب فوار، فإما أن يندفعوا في تيار الحوادث الدافق، فيكونوا من رجال الصحافة لا من رجال الأدب بمعناه الصحيح، وإما أن يلتمسوا مرحلة أخرى من مراحل حياتهم، كانت أنعم روحا وأهدأ محيطا، فلا عجب، إذا، أن نسمع أن كثيرين من أدباء أوروبا اليوم قد انصرفوا نحو ماضيهم يؤرخونه ويسجلونه؛ لأنهم يجدون في ذلك الماضي حياة مستقرة هادئة بعض الشيء، تصلح للتصوير الذي يرضي عشاق الجمال.
عالم قلق هذا الذي نعيش فيه، ينهار فيه بناء ليقوم مكانه بناء، ويندك فيه نظام ليحل محله نظام، والدعوات فيه متلاحقة متتابعة، لا تكاد الدعوة منها تبلغ الأسماع حتى تنسخها دعوة ... هل رأيت حركة الهدم والبناء من حولك في بلد كالقاهرة مثلا؟ فقد تغيب شهرين عن حي من أحيائها ثم تعود لتجد عمارة شامخة أقيمت، أو لتجد بناء مألوفا لك قد أبيد، ففي كل حين، بل في كل شارع، بل في كل ركن هدم وبناء، والسمة التي تسم الحركة كلها هي السرعة اللاهثة، و«الهرجلة» التي لا تعبأ بشيء من ترتيب أو تنسيق. وهكذا العالم كله الذي نعيش فيه اليوم، ففيه الهدم والبناء، ثم الهدم وإعادة البناء، يتلاحقان في مثل هذه السرعة اللاهثة المحمومة، وهذه «الهرجلة» التي لا تجد الفراغ للروية والتأني؛ لعلها توفق إلى شيء من ترتيب يدوم أو تنسيق يرضي.
Неизвестная страница