على الرغم من عدم وجود أدلة وثائقية كثيرة على حكم كليوباترا السابعة؛ فقد كتبت النجاة لتماثيل بعض موظفي الملكة (ووكر وهيجز 2001: 180-183). يعبر التمثال الأول عن رجل يدعى «با-أشيم»، الذي كان حاكما لدندرة في الفترة بين عامي 50 و30 قبل الميلاد تقريبا (بيانشي 1988: 127). لم يكن السطح الخارجي للتمثال تاما، ومع ذلك، كان النص المكتوب عليه مكتملا؛ فيبدو أن النحاتين المصريين لم يكونوا ينتهون دوما من نحت السطح الخارجي للتماثيل، فيتركون عادة ملامح رئيسية مثل اليدين والقدمين في حالة نعتبرها غير مكتملة. صنع هذا التمثال على وجه الخصوص بأمر من الموظف نفسه على الأرجح أو بالنيابة عنه. وتشير الألقاب الموجودة على العمود الخلفي (ووكر وهيجز 2001: 181) إلى أن هذا الحاكم كان يمارس دور الكاهن بصفته: «رسول تماثيل الفرعون» و«حارس كنز حورس في إدفو» و«رسول إيزيس في دندرة وفي فيلة»، إلخ. يظهر السطر الأخير من النص المكتوب اسم والد با-أشيم ووظيفته، فكان اسمه «با-سرج» وكان قائدا في الجيش.
أحد الموظفين الآخرين الذين عملوا مع كليوباترا وظهر تمثال لهم رجل يدعى حور، الذي كان كاهنا للإله تحوت (ووكر وهيجز 2001: 182-183). عثر على هذا التمثال في الإسكندرية، ويظهر صاحبه على مشهد من نقش بارز وهو يقدم القرابين إلى تحوت الذي كان كاتبا لدى الآلهة . وفقا لهذا الدور يظهر حور حليق الرأس كجزء من طقوس النظافة المعتادة قبل المثول أمام أحد الآلهة. ومع ذلك يظهر في التمثال وعلى رأسه جدائل قصيرة. في فترة حياته أعاد حور بناء معبد للإله أوزوريس كان قد انهار وأصبح حطاما بسبب حفر قناة بالقرب منه. يقول السطر الثالث في النص المكتوب على العمود الخلفي إن حور اهتم بالقرابين المقدسة المقدمة إلى الإله آمون-رع. ويشير هذا إلى أن تمثال حور نحت بناء على رغبته، أو أنه ربما غير دوره الكهنوتي في فترة حياته. يعتبر هذا التمثال تصويرا جديرا بالملاحظة لصورة رجل يتراوح عمره على ما يبدو من أواخر الأربعينيات إلى منتصف الخمسينيات، يوجد بعض التجاعيد عند فمه وذقنه وحول عينيه. كان هذا النوع من التصوير غير المثالي معتادا للموظفين في عصر البطالمة وأوائل عصر الرومان. (5) الأدلة الوثائقية على حكم كليوباترا لمصر
للأسف لم ينج إلا عدد قليل من الوثائق من فترة حكم كليوباترا، وما نجا من هذه الوثائق أعيد استخدامه كلفائف للمومياوات في ذلك العصر. يمكن تقسيم الأوامر الملكية إلى ثلاثة أنواع رئيسية: المراسيم العامة، التي لا تكون موجهة إلى فرد معين، والتعليمات الموجهة إلى أحد المسئولين بلقبه، والتعليمات الموجهة إلى أحد المسئولين باسمه فقط (فان مينن 2003: 35). يوجد بعض هذه الوثائق في صورتها الأصلية على ورق البردي، بينما لا يوجد إلا نسخ صخرية فقط من البعض الآخر. يشرح هذا عملية الإدارة حيث كانت التعليمات تنقل عبر مرسوم ملكي إلى أحد المسئولين، يأمر عندها بصنع نسخة حجرية حتى يراها الجميع. لا يبدو أن النوع الثالث من الأوامر، الذي يوجه إلى شخص باسمه، قد ظهر إلا في عصر كليوباترا السابعة، على الأرجح في أثناء حكمها المشترك مع والدها (فان مينن 2003: 35)، وهو تطور جدير بالذكر في أسلوب تواصل الحكام مع مؤيديهم. لم يظهر اسم الوظيفة التي يشغلها المخاطب (الرجل المسئول عن الوظيفة المتاحة) إلا أواخر عصر البطالمة، كما يتضح في خطابين أرسلتهما كليوباترا، وقد يشير هذا إلى أنه قد أدخل من أجل التعامل مع هذا النوع الجديد من الأوامر الملكية (فان مينن 2003: 36). (5-1) مراسيم اللجوء إلى المعابد من فترة حكم كليوباترا السابعة
ظهرت مراسيم اللجوء إلى المعابد لأول مرة في عهد بطليموس العاشر (ريجزبي 1996: 544). على الرغم من النظرة التقليدية لتلك المراسيم التي تعتبرها دليلا على ضعف سلطة الدولة، اقترح البعض أن منحها كان أحد السبل التي تعيد بها المعابد الأصغر حجما والأقل سلطة التأكيد على حقوقها التقليدية. قيل أيضا إنها بدلا من أن تكون مجرد إشارة إلى وجود مشكلات بين المتنافسين على المميزات الملكية والكهنة والأسرة الحاكمة، تعبر هذه المراسيم عن وجود خلافات بين المتنافسين بعضهم مع بعض (هاينن 1994: 157-168). كانت طلبات اللجوء ترد من كثير من مختلف أفراد شعب البطالمة إلى معابد الآلهة المصرية، ومن الإغريق إلى معابد الآلهة المصرية والآلهة الإغريقية، وفي حالة واحدة، وجد طلب لجوء إلى معبد إله اليهود (ريجزبي 1996: 544). يوجد عدد من هذه المراسيم من فترة حكم كليوباترا السابعة (للاطلاع على النصوص انظر ريجزبي 1996: 569-573، وطومسون 2003، وفان مينن 2003). يرجع أقدم تاريخ إلى 7 مارس و14 مارس عام 46 قبل الميلاد، ويأتي من معبد إيزيس بالقرب من مدينة بطلمية. كانت بطلمية مدينة إغريقية أقيمت في أوائل عهد البطالمة تحت حكم بطليموس الأول أو الثاني، وكانت لها الامتيازات نفسها التي كانت لمدينة الإسكندرية. قدم الالتماس من رجل إغريقي إلى الإلهة إيزيس، وهي بالطبع واحدة من الآلهة المصرية التقليدية. النص موجه إلى المسئول باسمه فقط وليس بوظيفته، وهو كالتالي: (أ) من ثيون إلى مدينة بطلمية، التحية؛ مرفق نسخة من الإعلان المرسل إلينا مع الأمر الذي جاء ردا عليه، حتى تعرفه وترفقه في الأرشيف العام بحسب ما تراه مناسبا. اهتموا بأنفسكم جيدا، إلى اللقاء. السنة السادسة، 12 برمهات. (ب) إلى ثيون: عليك بإبلاغ الأشخاص المعنيين أن معبد إيزيس، الذي بني بأمر من كاليماخس الحاكم العسكري لجنوب بطلمية، سيعفى من الضرائب ويحظر انتهاك حرمته هو والمنازل المبنية حوله حتى جدران المدينة. (ج) لينفذ هذا الأمر. السنة السادسة، 5 برمهات.
نقش هذا المرسوم على لوح من الجرانيت، يوجد حاليا ضمن مجموعة مقتنيات روسية (ريجزبي 1996: 569). يبلغ طول هذا اللوح نحو 99 سنتيمترا وعرضه 56 سنتيمترا؛ ويصل ارتفاع الكلام بين 2 و2,5 سنتيمترا. يظهر هذا المرسوم الطريقة التي يقدم بها التماس من أجل الحصول على تصريح وطريقة صدوره. وربما تعكس السرعة التي يستجاب بها للطلب، في خلال أسبوع، المكانة الخاصة لمدينة بطلمية، رغم أن المعبد كان يقع خارج جدران المدينة (ريجزبي 1996: 570-571). وتشير سرعة التنسيق أيضا إلى أن ثيون كان في الإسكندرية من أجل الحصول على الإذن الملكي الذي يتجلى في عبارة «لينفذ هذا الأمر» والتاريخ المذكور.
تشير وثيقة أخرى إلى أحد معابد اليهود، ربما في مدينة ليونتوبوليس في منطقة الدلتا، ويرجع تاريخها إلى الحكم المشترك بين كليوباترا وبطليموس الخامس عشر (ريجزبي 1996: 571-572، بعد بينجن 1995). يقال إن هذا اللوح كان مصنوعا من معدن الكالسيت (ريجزبي 1996: 572)، رغم أن هذا أمر غير معتاد على الإطلاق. كتبت الغالبية العظمى من النص باللغة الإغريقية، لكن توجد جملة إضافية باللغة اللاتينية تقول: «أصدرت الملكة والملك أمرا» (ريجزبي 1996: 573). يحتوي القسم المكتوب باللغة الإغريقية على نقش غريب يتحدث عن استبدال لوح تأسيسي سابق، أهدي إلى أحد المعابد اليهودية في أثناء حكم «بطليموس يورجيتيس»، الذي ربما كان بطليموس الثالث أو الثامن. يشير استخدام اللغة اللاتينية إلى أن المسئولين عن كتابة هذا اللوح كانوا من الرومان؛ يقول ريجزبي إنهم ربما كانوا رجالا من جيش أنطونيو. كذلك فإن حقيقة أن مكان العبادة لم يكن معبدا يرتبط بمكانة الملكة أو سلطتها، تشير إلى أنها كحاكمة كانت تهتم برعاياها كافة (طومسون 2003: 33).
لم تحفظ وثائق اللجوء الأخرى التي تعود إلى عهد كليوباترا السابعة بأكملها. توجد الوثيقة الأولى حاليا في متحف جامعة روما (ريجزبي 1996: 571). أما الوثيقة الثانية الموجودة على شكل لوح على الطراز المصري فتظهر مشهدا تقليديا لتقديم الحاكمة القرابين إلى الإله تحوت (ريجزبي 1996: 573).
كما أشرنا، تمنحنا هذه المراسيم نظرة ثاقبة على طريقة عمل حكومة كليوباترا؛ وهي أنها بدلا من أن تكتب إلى خمسين مركزا (عاصمة
إدارية) في مصر كل منها على حدة، يخاطب أحد المسئولين الموثوق بهم مباشرة باسمه وليس بوظيفته ، ومن المفترض أنه كان عندها ما يضمن أن ينشر التشريع بالنيابة عن الحاكم (فان مينن 2003: 34-36). كان الكتاب يعينون من أجل كتابة مثل هذه الخطابات، لكن اقترح مؤخرا إن الملكة كان لا بد لها من التوقيع على مثل هذه الوثائق بنفسها وأن المتلقي كان يعرف توقيع حاكمته (فان مينن 2003: 37-39). ظهر أحد الأمثلة على هذا؛ ورقة بردي كانت جزءا من غطاء إحدى المومياوات في الجبانة الهلنستية في قرية أبو صير الملق، اكتشفت في أوائل القرن العشرين لكنها لم تقرأ وتنشر إلا مؤخرا (فان منينن 2000: 29-34). زعم فان منينن إن أمر «لينفذ هذا» كتبته كليوباترا بنفسها، لكن كثيرا من علماء البرديات يعارضون هذا الزعم، رغم تكرار ذكر فان منينن لأدلته عام 2003 مرة أخرى على كون هذا توقيع الملكة. سواء كانت ورقة البردي هذه، التي يرجع تاريخها إلى عام 33 قبل الميلاد، قد وقعتها كليوباترا أم لا، فإن قيمتها الفعلية ضئيلة للغاية بخلاف كونها مثالا لخط الملكة.
إن محتويات الوثيقة سابقة الذكر في غاية الأهمية فيما يتعلق بمعرفتنا بنظام الإدارة في تلك الفترة؛ ففيها تمنح كليوباترا امتيازات ضريبية كبيرة لأحد قادة الجيش الرومان اسمه بوبليوس كانيديوس، الذي كان أحد حلفاء مارك أنطونيو المقربين؛ فقد سمح لكانيديوس بتصدير 10 آلاف شوال قمح من مصر وحصل على رخصة باستيراد 5 آلاف قارورة من الخمر الكريتي إلى داخل البلاد دون دفع ضريبة (ووكر وهيجز 2001: 180). كان هذا المواطن الروماني معفى أيضا من دفع ضريبة على الأرض التي يملكها في مصر وامتد هذا الإعفاء إلى مستأجري الأرض منه؛ فمن الواضح أن كليوباترا كانت تحاول الحصول على دعم وولاء هذه الشخصية الرومانية المؤثرة.
Неизвестная страница