ولما استوفى عمر السبعين وأصبح في يبسه وموته كأنه جذر قرن من الزمن، خرج في عيد مولده إلى سواد المدينة
16
منحدرا إلى قرية يملكها، وانطلق يجتلي مناظر الطبيعة، فكان لا يرى في السائمة والطير والنبات والأزهار إلا شبابا وطفولة، وكان وحده منظر الهرم المستميت في هذه الطبيعة كلها، وأعجبته شجرة قائمة على مسيل الماء، وأعجبه أن يتفيأ ظلها وقد تحفى بروحه المتعبة بردها ونسيمها، فانطرح يتثاءب هنيهة وأحب أن يسافر إلى شبابه البعيد على مطية النور، فكبس رأسه على ذراعه فإذا هو نائم كأنما جرع السم، فخمده من فوره.
ورأى فيما يرى النائم كأن الأرض ترقصه على أعشابها لتمسح عن أعضائه التعب، ثم أبصر السماء في مثل تحاسين الطاووس من ألوانها وأصباغها، كأنما أشرف على الأرض فجر يوم من أيام الجنة، ثم نظر فإذا ضوء رطب يتندى وقد ترقرق فأصاب شفتيه الذابلتين، ولمح على إثره وجه حسناء كأنها فلقة القمر، فكان ذلك الضوء قبلتها وابتسامتها، وكان على قلبه «بردا وسلاما»، فنصب لها يديه يتناولها فإذا هي تتخطى الغمام هابطة إليه، وإذا هي على الأرض نحوه مقبلة، وإذا هي أمامه ضاحكة، وإذا هي ملء صدره وذراعيه؛ فارتجف جسمه رجفة شديدة كأن فيها شوق سبعين سنة من الهجر، وما لبثت عقدة أجفنه أن انحلت، فنظر فإذا يد فتاة قروية ناعمة تهزه برفق!
فانتهض الكونت كأنما نشط من عقال، ولما تصح عيناه من سكرة الحلم، فكان يخيل إليه أنه يرى جمال السماء والأرض معا في طلعة هذه الفتاة وعلى غرتها، ثم كشف لها عن رأس كفروة الأرنب البيضاء، وانحنى متأدبا، وقال بلطف: أشكرك يا سيدتي!
أما هي فابتسمت له، وقام في نفسها أنها هي ردت عليه روحه، وأنها لو لم تنبهه لما انتبه آخر الدهر، كأنما حسبته ميتا، وظهر هذا الفكر في ابتسامتها فأكسبها شيئا من قوة روحها، وجعل لشفتيها الحمراوين جمالا كجمال الشفق إذا افتر عن نور الفجر.
وتأملها الرجل بمبلغ ما في نفسه من لذة الحلم، وما في صدره من ضجعة تلك الحورية التي تلوت عليه وتقلبت فيه؛ «وبعث عليها وهمه، وصبغها بألوان نفسه، واستضاءت به فكأنما منه أمام الفانون السحري!» وما خلق الله لذة أهنأ للنفس من لذة الأحلام، فكأنما ترى فيها النفس شيئا من تحقيق المستحيل، وإن في أعقاب هذه اللذة بعد اليقظة ما يشعر المرء بالأماني كيف جاءت وكيف ذهبت، فكأنما كان في حياة أخرى، وكأن نفسه تتمسك بهذه الحياة ولا تريد أن تسلمها، فتكون ذكرى الحلم أروح للنفس من الحلم نفسه على الحقيقة؛ لأنها نتاج ما بين لذة لم تكن شيئا ولذة صارت شيئا.
وثبتت صورة الفتاة في عينه على ما اشتهى، وكانت زهراء اللون، حوراء العينين، ساجية الطرف، أسيلة الخد، باسمة الثغر، حسنة التكوين كأنها ريحانة ترف رفيفا، وتكاد من فرط رقتها تتكلم ابتساما حتى لا يحسب من رآها أن الشمس طلعت يوما على أبدع من ثغرها واللؤلؤ، ولا أحسن من خدها والورد، وكأن الطبيعة يعتريها أحيانا من سوء الحرص وسوء الخوف وسوء الحيلة بعض ما يعتري الشحيح الذي يخبأ أنفس ذخائره في أخس الأمكنة وأقبحها منظرا، وفيما لا حفل به من الأداة والمتاع، فكانت «لويز» على ما وصفنا من الجمال والظرف، ولم تكن مع ذلك إلا قروية!
أما صاحبها فما أشبهه بعنق النس؛ شيخ مضعوف، كالعرق المنزوف، والعظم الملفوف ، ممسوح العضدين،
17
Неизвестная страница