كذلك يحاول الناس أن لا يخطئوا الرأي فيما يستحبونه أو يطمئنون به، وكأنهم لذلك يحاولون أن لا يصيبوا الحق فيما يكرهونه أو ينفرون منه؛ فكلهم سواء في ابتغاء السعادة المتوهمة التي لا يستحيل أن تتفق، ولكنها مع ذلك لا تتفق؛ إذ يريدها كل امرئ على غير ما يناسب تكوينه الإنساني ... وهم بعد على سواء من خشية الفقر، كأن فقرهم بين أعينهم، فلا تبرح أوهامهم تنتجي
16
بمعانيه وهمومه، ثم لا تبرح تنمى بها حتى صار الفقر في أنفسهم غير الفقر في نفسه، وقد علم الله أنه ما من إنسان إلا وفي تكوينه معان كثيرة منه. على أن السعادة الممكنة أو التي يمكن أن تسمى سعادة، إنما يكون زمامها الحس؛ إذ هو الوسيلة لإدراك الجمال وتعرف المواضع المعنوية في المادة، والاهتداء في صنع الله إلى أسرار الحكمة، وليس من لذة يصيبها الإنسان فيسميها لذة ألا وهي شيء معنوي يجيء من طريق الحس، فيشعر هذا الإنسان أن فيه معنى لم يكن فيه، وكأن اتصال شيء من سر النفس أو قدرتها، بشيء من سر الطبيعة أو قدرتها، هو السعادة.
غير أن العجيب الذي ما يقضى منه عجبا أن ذلك الحس كلما نضج واستمر
17
كان أشد إدراكا للآلام منه للذات؛ حتى إن الرجل الرقيق ليتألم للناس أكثر مما يتألم لنفسه؛ فهل ذلك ألا أن حكمة الله قد أقرت في تركيب الإنسان من عناصر الفقر أكثر مما وضعت فيه من عناصر الغنى؟
وما أشبه نفوس الناس في هذه الحياة بالزجاج سلط عليه نور الشمس؛ فما كان من طبعه رديئا غير مصقول، أو مهملا قد شاع فيه الصدأ، فذلك متى ألحت عليه وقدة الجو حمي وتضرم في ذات نفسه ؛ وما كان من طبعه صافي الماء بادي الرونق نقي الصفحة، رأيته في توقده واضطرامه كأنما يمج من شعاع الشمس لهبا يتطاير؛ فإن كانت الزجاجة قد أخلصت في سبكها، وصنعت على الوجه الذي يجمع الضوء ويعكس منه، وأحكمت من هذه الناحية؛ فهناك تبلغ من دقة الحس مبلغ الأنفس الرقيقة المهذبة، فلا تكاد ترسل عليها الشمس من نورها حتى يرجع فيها نارا تلظى.
ومتي اعتبرنا الشقاء الإنساني وما يعترض الإنسان في طريق الحياة، رأينا الحق الذي لا مرية فيه أن هذا الإنسان حين تمشي راحلته إلى القبر
18
لا يكون قد انتهى من الحياة كما يقال، ولكنه ينتهى حينئذ من الموت.
Неизвестная страница