ولكن متى تكون الحرب حقا، ومتى تكون باطلا؟ فهذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه، وربما كان الجواب عليه سؤالا آخر، وهو: متى تعرض في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها؟ ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحول بها التاريخ الإنساني كلما وجب أن يتحرف ليتبع مجراه من الغيب؟
أليس ذلك هو السبب في أن العقل أحيانا يكون أول من ينهزم في الحرب كما تراه اليوم،
17
فيصبح الفلاسفة والعلماء والمتفننون ولا هم لهم إلا إدارة حركة الموت هجوما ودفاعا، وترى الصلوات والأدعية والتسابيح تتصاعد إلى الله وفيها ريح الدم والنار والغازات، كأنها قنابل صنعت من العواطف؟
وقد يقول بعضهم: إن في الحرب إسرافا اجتماعيا بما تأخذ من الموتى وما تترك من المرضى. ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاقي في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونعمهم ومصائبهم ونحوها، مما يؤدي إلى انطواء هذا المجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الاجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيوانا على شكل مخترع!
فلا ترين يا بني هذه الوحشية التي تعتري الناس في حروبهم إلا سببا في رجوعهم بعد ذلك إلى الإنسانية الخالصة التي أفسدوها بحضارتهم، وضربوا عليها الحدود من مصطلحات التمدن ومن أصول المعاملة، فأصبح الإنسان منهم يقضي العمر وهو يتعلم كيف يصير إنسانا!
وأنا يا بني في خاصة نفسي أكره الحرب؛ لأني أراها تصور بكل ألوان الهلاك والخراب فكرة العدم المبهمة على قطعة من أديم الأرض، وأمقتها لأنها تلوث الحياة بدماء الرجال ثم لا تغسلها إلا بدموع النساء والأطفال، وأبغضها لأنها تدفن تاريخها الصحيح للمستقبل ولا تترك للحاضر إلا تاريخها المشوه في أعضاء الجرحى، ولكن البغض يا بني لا ينفي الحكمة مما تبغضه، وما سرور نصف الناس إلا بما يكره النصف الآخر!
وأكبر شخص اجتماعي وهو الأمة، كأصغر شخص اجتماعي وهو الطفل؛ كلاهما يبكي ويتألم حين يضرب لتأديبه.
قال «الشيخ علي»: وهذا آخر قول الشيخ علي.
على الكوكب الهاوي
Неизвестная страница