أليس من كل هذا يتهيأ البقاء للحياة الإنسانية في نظام لا يخف على نوع الإنسان فيهمله فيفسد به، ولا يجور عليه فيستأصله فيذهب به؟
وهل الناس إلا خطوط في لوح الغيب، يستقيم ما يستقيم منها، ويعوج ما يعوج؛ لأن كل ذلك مما لا بد منه في جملة الوضع وإحكامه؛ فإذا أردت أن تسأل لم استقام هذا ولم اعوج ذاك، ثم ما قصر وطال، ثم ما دق وجل، ثم ما علا وسفل، ثم ما انفرد واختلط؟ فسل: لم خلقت الدنيا ولم خلق الناس؟ وسل الخالق ولا تسل «الشيخ علي»!
كل ذلك يا بني حكمة وكل ذلك انتخاب، وقد ظفر العلماء في حركات النظام بما سموه «الانتخاب الطبيعي»، وعرفوا أن ذلك سر من أسرار التقدم والارتقاء؛ فاعلم أن ما نحن فيه من معنى «الحظ» إنما هو «انتخاب إلهي»، وذلك سر من أسرار الحياة والبقاء، وما من حركة لي ولك ولكل إنسان إلا هي تمس قطعة من تاريخ الحياة وطائفة من الأحياء؛ فليس من حي هو لنفسه وحدها، وليس من حقيقة هي لنفس واحدة، وإن عرف الإنسان بعض الحقيقة من نفسه، فأكثر الحقيقة لا يعرفه إلا من سواه؛ ومن أجل ذلك يقضي نظام الحياة بما نسميه «الحظ»، وإن كنا لا نفهمه كما يقضي به نظام هذه الحياة، وإنما قوة الحركة وضعفها على حسب ما يراد بها في الدفع والجذب؛ فكن واثقا بالله مؤمنا بالقدر خيره وشره، فالثقة وحدها حظ عظيم، والله تعالى يصيب الناس بنياتهم؛ إذ هي حقائقهم الصريحة، وإذ هو وحده المطلع عليها؛ فهو يوفق السعداء للنية الحسنة ثم يسعدهم بهذه النية على الوجه الذي يعلم أنه من سعادتهم، فإن لم يكن لهم الحظ الذي يريدونه فلهم الحظ الذي يلائمهم، وربما كان زمام العافية بيد البلاء، وكانت النعمة في عاقبة المصيبة، وكان الإنسان عابسا من طلعة القدر والقدر يضحك له!
وإذا لم يكن للأقدار نواميس أرضية تجري عليها وتقع بحسبها، فإن أقرب ما يصح أن يعد من نواميسها فيما أرى هو نيات الناس.
وما النية إلا خلاصة الفكر والضمير ونتاج ما بينهما؛ فلا تنطو على ما يسوءك أن تنم به ألسنة الغيب، وإنما الحوادث من هذه الألسنة، ولا تعقد هوى ضميرك على ما تحسبه أملا من حيث لا يكون إلا حسدا للناس، ولا يعقب إلا نكدا لنفسك، وما تظنه عزما منك وهو طمع في الله ومخادعة للقدر.
وحسبك من المتاجرة مع السماء بضاعة صالحة من الإيمان الذي لا غش فيه، ومن المتاجرة مع الأرض بضاعة طيبة من النية التي لا دنس فيها؛ فإن ربحك من هذه البضاعة التي لا تكسد في أسواق السماء والأرض، أن يلقي الله عليك محبة منه وتأييدا وسكينة، وإن رأى الناس أنك خسرت شيئا من الغنى أو الجاه أو متاع الدنيا، فإنما تعلم أنت يقينا أنك لم تخسر إلا الهم والشقاء والتعب بالدنيا وأهلها.
ويومئذ يكون لك من حسن الإيمان، وحسن النية، وحسن الأخلاق، ما تعرف منه كيف يكون «حسن الحظ».
هوامش
الفصل التاسع
الحرب1
Неизвестная страница