Книга посещений шейха аль-Ислама Ибн Таймии

Ибн Таймия d. 728 AH

Книга посещений шейха аль-Ислама Ибн Таймии

كتاب الزيارة من أجوبة شيخ الإسلام ابن تيمية

Исследователь

سيف الدين الكاتب

Издатель

دار مكتبة الحياة الطباعة والنشر

كِتابُ الزِّيَارَة

من أجوبة

شَيخ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ الله

٦٦١ - ٧٢٨ هـ

رَاجَعَهُ وَعَلَّقَ حَوَاشِيَهُ

سَيْفُ الدِّينِ الكَاتِب

مُجَازٌ مِنْ جَامِعَةِ الأَزْهَر

1

جميع حقوق هذه الطبعة محفوظة للناشر

دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر

2

كتاب الزيارة

3

-

4

مقدمة الناشر

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ..

وبعد .. فإننا إذ نقدم إلى قرائنا الكرام كتاب الزيارة لمصنفه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .. نرجو أن نكون عند حسن ظن القارىء الكريم الذي عاهدناه على الالتزام بالكلمة الطيبة الصادقة، والفكر الحضاري الفذّ .. والنتاج الإِنساني الرفيع راجين تلقيه بالرضا والقبول.

وكتاب (الزيارة) هذا يجيب على مسائل مهمة تتعلق بزيارة القبور ابتداء من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومروراً بكل مظاهر التعظيم وشعائر التوسل والتمسح بقبور بعض الأنبياء والصالحين مما ابتدعه بعض الجهال في دين الله بعد أن أتمه الله وأكمله على الذي هو أحسن، وانتهاءً بمسألة زيارة النساء للقبور وأحكام ذلك كله بالتفصيل بحيث لم يُبقِ المصنف - رحمه الله - زيادة لمستزيد في الأمر بعد أن دعم كل رأي أورده في الكتاب بنصوص من الكتاب والسنة تدحض كل شبهة وبدعة ودخيلة.

هذا وإن دار مكتبة الحياة إذ تقدم اليوم هذا الكتاب القيم، فإنها تؤكد التزامها بما تعهدت به من نشر الفكر الإسلامي الفذ الذي تتبناه شكلاً ومضموناً، وذلك أحد دواعي احياء تراث هذه الأمة التي أكرمها الله بالخيرية في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهّوْن عن المنكر وتؤمنون بالله)

5

وما أحرى الأجيال الناشئة اليوم، والمرشحة لقيادة إنسان الغد أن تراجع تراث أمتها المجيدة التزاماً بالأصالة التي تحتمها المسيرة الحضارية الفذة واعتصاماً بحبل الله المتين، في زمن عزّ فيه المعتصمون بحبل الله ... واتباعاً لهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - على آثار سلف هذه الأمة من أعلام الإِسلام الشامخين الذين شيّدوا الصرح الذي كان مفخرة الحضارات على مدار التاريخ الإِنساني.

نسأل المولى عز وجل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دار مكتبة الحياة

جمادى الأولى - ١٤٠٠ هـ

بیروت

آذار - مارس - ١٩٨٠ م

6

بسم الله الرحمن الرحيم

7

-

8

ترجمة

شيخ الإسلام ابن تيمية

- رحمه الله -

٦٦١ - ٧٢٨ هـ / ١٢٦٣ - ١٣٢٨ م

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، أبو العباس، تقيّ الدين ابن تيمية: الإِمام، شيخ الإِسلام، ولد في حران، وتحول به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر، وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من أهلها، فسجن مدة، ونقل إلى الإسكندرية، ثم أطلق، فسافر إلى دمشق سنة ٧١٢ هـ .. واعتقل بها سنة ٧٢٠ وأطلق، ثم أعيد، ومات معتقلاً بقلعة دمشق فخرجت دمشق كلها في جنازته. كان كثير البحث في فنون الحكمة داعية إصلاح في الدين، آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان.

وفي الدرر الكامنة أنه ناظر العلماء، واستدل وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرّس وهو دون العشرين. أما تصانيفه ففي الدرر أنها ربما تزيد على أربعة آلاف كراسة، وفي فوات الوفيات أنها تبلغ ثلاث مئة مجلد، منها الجوامع - ط في السياسة الإلهية والآيات النبوية، والفتاوى - ط خمس مجلدات، والايمان - ط والجمع بين النقل والعقل - خ الجزء الرابع منه، ومنهاج السنة النبوية - ط والفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان - ط والواسطة بين الحق والخلق - ط والصارم المسلول على شاتم الرسول - ط ومجموع رسائل - ط فيه ٢٩ رسالة. ونظرية العقد - ط وتلخيص كتاب

9

الاستغاثة - ط)) يعرف بالرد على البكري وكتاب ((الرد على الأخنائي - ط)) رسالة، و((التوسل والوسيلة - ط)) و((نقض المنطق - ط)) و((الفتاوى - خ)) و((السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - خ)) و((مجموعة - ط)) أخرى اشتملت على أربع رسائل: الأولى: رأس الحسين (حقق فيها أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن في البقيع). والثانية: الرد على ابن عربي والصوفية، والثالثة: العقود المحرمة. والرابعة: قتال الكفار. ولابن قدامة كتاب في سيرته سماه: ((العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - ط))(١)

(الإعلام: ١ / ١٤٠ - ١٤١)

(١) فوت الوفيات ٣٥/١ - ٤٥ والمنهج الأحمر - خ - والدرر الكامنة ١٤٤/١ والبداية والنهاية ١٣٥/١٤ وابن الوردي ٢٨٤/٢ وآداب اللغة ٢٤٣/٣ والتجمع الزاهرة ٢٧١/٩ ودائرة المعارف الإسلامية ١٠٩/١ والتبيان - خ - وتهذيب ابن عساكر ٢٨/٢ .

10

المسألة الأولى

[السلام على النبي وما ورد في زيارة قبره المكرم]

سئل شيخ الإسلام ومفتي الأنام العالم العامل، الزاهد الورع ناصر السنة وقامع البدعة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه

عن قوله ((من حج فلم يزرني فقد جفاني))؟

[صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ السلام عليه، لا لفظ زيارته]

فأجاب: قوله: ((من حج ولم يزرني فقد جفاني)) كذب، فإن جفاء(١) النبي صلى الله عليه وسلم حرام وزيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين ولم يثبت عنه حديث في زيارة قبره، بل هذه الأحاديث التي تروى: ((من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)) وأمثال ذلك كذب باتفاق العلماء. وقد روى الدارقطني وغيره في زيارة قبره أحاديث، وهي ضعيفة. وقد كره مالك - وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة والتابعين وتابعيهم كره ــ أن يقال: زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو كان هذا اللفظ ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفاً عند علماء المدينة لم يكره مالك ذلك وأما إذا قال: سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكره بالاتفاق، كما في السنن عنه صلى

(١) الجفاء: نقيض البر، وهو القطيعة.

14

الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام». وكان ابن عمر يقول: السلام عليك يا رسول الله: السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا أبت(٢)! وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة. فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت(٣)؟! قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء»(٤).

فصل

وأما قوله: «من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي» وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فليس منها شيء صحيح، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيئاً: لا أصحاب الصحيح: كالبخاري، ومسلم. ولا أصحاب السنن: كأبي داود، والنسائي. ولا الأئمة من أهل المسانيد: كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه: كمالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأمثالهم، بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة، كقوله: «من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» وقوله: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب.

والحديث الأول رواه الدارقطني والبزار في مسنده، ومداره على عبد الله بن عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، وليس عن النبي صلى الله عليه

(٢) أخرجه مالك في الموطأ.
(٣) يقال: رمّ العظمُ يرمّ - بكسر الراء - أي بلي، فهو رميم، وأرمْتَ مخفف من أرمَمْتَ.
(٤) الحديث رواه أبو داود وغيره.

12

وسلم في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديث ثابت أصلاً، بل إنما اعتمد العلماء على أحاديث السلام والصلاة عليه، كقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» رواه أبو داود وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام» رواه النسائي، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة: فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟» فقال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء» رواه أبو داود وغيره.

وقد كره مالك أن يقول الرجل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: لأن لفظ الزيارة قد صارت في عرف الناس تتضمن ما نهي عنه، فإن زيارة القبور على وجهين: وجه شرعي، ووجه بدعي.

[الزيارة الشرعية والزيارة البدعية]

«فالزيارة الشرعية» مقصودها السلام على الميت والدعاء له، سواء كان نبياً، أو غير نبي. ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه، ويدعون له، ثم ينصرفون، ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه، ولهذا كره مالك وغيره ذلك، وقالوا: إنه من البدع المحدثة. ولهذا قال الفقهاء: إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر بل يستقبل القبلة، وتنازعوا وقت السلام عليه: هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر؟ فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة، وقال مالك والشافعي وأحمد: يستقبل القبر

(٥) قال الفيروز آبادي في الحديث: وقد أرمتَ: أي بليت، أصله أرمَمْتَ، فحذفت إحدى الميمين كأحَسْتَ في: أحسست.

(٦) بدعي: نسبة إلى البدعة، وهي كل أمر محدث في الدين بعد أن أتمه الله وأكمله.

13

وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد))(٧) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيداً))(٨) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))(٩) يحذر ما فعلوا وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك))(١٠).

ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبراً (١١) من قبور الأنبياء وغيرهم، ولا يتمسح (١٢) به، ولا يستحب الصلاة عنده، ولا قصده للدعاء عنده أو به، لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان، كما قال تعالى : ﴿وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سَواعا ولا يَغوثَ ويعوقَ ونَسراً﴾(١٣) قال طائفة من السلف: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا (١٤) على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فعبدوهم.

وهذه الأمور ونحوها هي من ((الزيارة البدعية)) وهي من جنس دين النصارى والمشركين، وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر،

(٧) حديث صحيح رواه أحمد في المسند ومالك في الموطأ. والوثن: أي الصنم.

(٨) العيد: الموسم، والعيد كل يوم فيه جمع أو تذكار لذي فضل، أو حادثة مهمة. والأعياد هي الأيام التي اعتاد الناس الاجتماع فيها لحزن أو مرض أو نحوهما. والحديث رواه أبو داود في سننه.

(٩) في الصحيحين عن عائشة. وجاء في سورة الكهف: ﴿قال الذين غَلَبوا على أمرهم لَنَتَّخِذَنَّ عليهمْ مسجداً﴾

(١٠) رواه مسلم في صحيحه عن جندب.

(١١) يقال: استلم الحجر إذا لمسه إما بالقبلة أو باليد. ولا يهمز وبعضهم يهمزه.

(١٢) التمسح: تعمّد ملامسة الجسد بشيء ما بقصد التبرك.

(١٣) سورة نوح / ٢٣ والأسماء الواردة في الآية هي أسماء آلهة كان الكفار من قوم نوح يتخذونها أرباباً من دون الله.

(١٤) يقال: عَكَفَهُ: حبسه ووقفه. ومنه (الاعتكاف) في المسجد وهو الاحتباس طاعة لله. وعكف على الشيء: أقبل عليه مواظباً. قال تعالى ﴿يعكُفُون على أصنام لهم .. ﴾

14

أو أن يدعو الميت ويستغيث (١٥) به ويطلب منه، أو يقسم به (١٦) على الله في طلب حاجاته، وتفريج كرباته (١٧). فهذه كلها من البدع (١٨) التي لم يشرعها (١٩) النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أصحابه وقد نص الأئمة على النهي عن ذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع.

ولهذا لم يكن أحد من الصحابة يقصد زيارة ((قبر الخليل)) بل كانوا يأتون إلى بيت المقدس فقط طاعة للحديث (٢٠) الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: ((لا تشد الرحال (٢١) إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)).

ولهذا اتفق أئمة الدين على أن العبد لو نذر السفر إلى زيارة ((قبر الخليل)) أو ((الطور)) الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام أو ((جبل حراء)) ونحو ذلك لم يجب عليه الوفاء بنذره، وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا

(١٥) الاستغاثة: الاستعانة.

(١٦) يقسم به: أي بالقبر أو بساكنه.

(١٧) الكربات: جمع مفرده: كُربة بالضم: هي الغَمَّ الذي يأخذ بالنَّفْس وكذا (الكَرْب). والتفريج: الكشف والإزالة.

(١٨) البدع: جمع مفرده: بدعة بكسر الباء. وهي كل شيء مبتدع والبدعة في الدين: كل ما أُحدِث في الدين بعد أن أكمله الله.

يقسم بعضهم البدعة إلى (بدعة حسنة وبدعة سيئة) فأما إذا كان المراد بذلك تسميتها باعتبار وضع اللغة كما قال عمر (رضي الله عنه) في التراويح: نعمت البدعة هذه، فلا غبار عليها. وأما إذا أريد المصطلح الديني بمعنى الاستطراد على حديث (كل بدعة ضلالة) وتقسيمها، فلا يجوز لأن الحديث نص على أن كل بدعة في الدين ضلالة. فلا تستحسن بدعة بالمدلول الشرعي.

(١٩) لم يشرعها: لم ينص عليها في الشرع الحنيف الذي جاء به محمد (ص).

(٢٠) المراد: طاعة لقول رسول الله الذي ورد في الحديث.

(٢١) الرحال: جمع مفرده رحل: هو ما يشدّه المسافر على ظهر بعيره من أثاث.

15

يعصه)) والسفر إلى هذه البقاع (٢٢) معصية في أظهر القولين، حتى صرح من يقول: إن الصلاة لا تقصر في سفر المعصية بأن صاحب هذا السفر لا يقصر الصلاة، ولو نذر إتيان المسجد الحرام لوجب عليه الوفاء بالاتفاق. ولو نذر إتيان مسجد المدينة، أو بيت المقدس: ففيه قولان للعلماء. أظهرهما وجوب الوفاء به، كقول مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه. والثاني لا يجب عليه الوفاء به، كقول أبي حنيفة والشافعي في قوله الآخر، وهذا بناء على أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجباً بالشرع، والصحيح وجوب الوفاء بكل نذر هو طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) ولم يستثن طاعة من طاعة.

والمقصود هنا: أن الصحابة لم يكونوا يستحبون السفر لشيء من زيارات البقاع (٢٣): لا آثار الأنبياء، ولا قبورهم، ولا مساجدهم، إلا المساجد الثلاثة، بل إذا فعل بعض الناس شيئاً من ذلك أنكر عليه غيره، كما أنكروا على من زار الطور الذي كلم الله عليه موسى، حتى إن ((غار حراء)) الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه قبل المبعث لم يزره هو بعد المبعث ولا أحد من أصحابه، وكذا الغار المذكور في القرآن (٢٤). وثبت أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - كان في بعض الأسفار (٢٥): فرأى قوماً ينتابون (٢٦) مكاناً يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(٢٢) البقاع: الأماكن من الأرض مفردها (البُقعة). وقوله: والسفر إلى هذه البقاع معصية: المراد: بقصد النذر أو شد الرحال إعظاماً وتبجيلاً واختصاصاً لها بما لم يخصها به الشرع الحنيف.

(٢٣) لم يكن للصحابة الكرام أن يتجاوزوا نصوص الشرع لأن اهتماماتهم وعواطفهم وسلوكهم جميعاً كانت وفق شريعة الله وهدي نبيه.

(٢٤) في قوله تعالى: ﴿ثاني اثْنْيْنَ إِذْ هُما في الغارِ .. ﴾

(٢٥) الأسفار: جمعُ سَفَر وهو قطع المسافة.

(٢٦) الانتياب: القصد إلى الشيء وإتيانه مرة بعد أخرى.

16

فقال: ومكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أتريدون أن تتخذوا آثار الأنبياء لكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا: من أدركته الصلاة فليصل، وإلا فليمض وهذا لأن الله لم يشرع للمسلمين مكاناً ينتابونه للعبادة إلا المساجد خاصة، فما ليس بمسجد لم يشرع قصده للعبادة، وإن كان مكان نبي أو قبر نبي.

ثم إن المساجد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتخذ على قبور الأنبياء والصالحين، كما قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) وقال ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) وهذان حديثان في الصحيح. وفي المسند، وصحيح أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد)) بلْ قد كره الصلاة في المقبرة عموماً، لما في ذلك من التشبه بمن يتخذ القبور مساجد كما في السنن عنه أنه قال: ((الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة، والحمام)) وهذه المعاني قد نص عليها أئمة الدين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأهل العراق وغيرهم، بل ذلك منقول عن أنس.

17

المسألة الثانية

[لا يشرع السفر لمجرد زيارة القبور]

سئل قدس الله روحه

وهذه صورة السؤال

ما يقول السادة العلماء، أئمة الدين، نفع الله بهم المسلمين: في رجل نوى ((السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين)) مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وغيره، فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟؟

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حج ولم يزرني فقد جفاني)) «ومن زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي» وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)).

افتونا مأجورين رحمكم الله.

فأجاب

الحمد لله رب العالمين.

أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:

18

أحدهما وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية(١)، كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين: أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر، لأنه سفر منهي عنه. ومذهب مالك والشافعي وأحمد: أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا يقصر فيه.

والقول الثاني: أنه يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم، كأبي حنيفة. ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي، وأحمد، ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالي، وأبي الحسن ابن عبدوس الحراني، وأبي محمد بن قدامة المقدسي. وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم. لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ((زوروا القبور)).(٢)

وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث، بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. كقوله ((من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي)) رواه الدارقطني وابن ماجه.

وأما ما ذكره بعض الناس من قوله: ((من حج ولم يزرني فقد جفاني)) فهذا لم يروه أحد من العلماء. وهو مثل قوله: ((من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)).

فإن هذا أيضا باتفاق العلماء لم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني ونحوه.

وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور بأنه صلى

(١) سفر المعصية: هو السفر المنهي عنه، وقد سماه المصنف أيضاً السفر المحرم، وسيأتي.

(٢) سيأتي الحديث بتمامه غير مرة.

19

الله عليه وسلم، كان يزور مسجد قباء (٣).

وأجاب عن حديث «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.

وأما الأولون، فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» وهذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يشد الرحل ليصلي بمسجد، أو مشهد، أو يعتكف (٤) فيه أو يسافر إليه، غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة.

ولو نذر أن يسافر ويأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة، وجب عليه ذلك باتفاق العلماء.

ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر، عند مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان جنسه واجباً بالشرع.

أما الجمهور، فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».

والسفر إلى المسجدين طاعة، فلهذا وجب الوفاء به.

(٣) قباء: أول مسجد في الإسلام، بناه المسلمون وشارك النبي - صلى الله عليه وسلم - في تشييده.

(٤) الاعتكاف في المسجد: الاحتباس فيه بقصد الطاعة لله تعالى.

20