عن كل هذا يبحث علم الأخلاق.
فهو علم يوضح معنى الخير والشر، ويبين ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضا، ويشرح الغاية التي ينبغي أن يقصدها الناس في أعمالهم، وينير السبيل لعمل ما ينبغي. (2) موضوعه ومسائله والأعمال الإرادية وغير الإرادية
يؤخذ مما ذكرنا أن علم الأخلاق يبحث عن أعمال الناس فيحكم عليها بالخير أو الشر، ولكن ليست كل الأعمال صالحة لأن يحكم عليها هذا الحكم، فكثير من الأعمال لا يصح أن يقال: إنها خير ولا شر، ولبيان ذلك نقول: تصدر من الإنسان أعمال غير إرادية كالتنفس ونبض القلب ورمش العين عند الإنتقال فجأة من ظلمة إلى نور، فهذه الأعمال تسمى (أعمالا غير إرادية)، وهي ليست من موضوع علم الأخلاق، فلا نحكم عليها بخير ولا شر، ولا يقال: إن الإنسان خير لأن قلبه ينبض نبضا حسنا، أو معدته تهضم هضما جيدا، كما لا يقال: إنه شرير لأن قلبه لا ينبض كما ينبغي، ومعدته لا تهضم هضما حسنا، لأنه لا دخل لإرادة الإنسان في ذلك، وكل إنسان يريد أن ينبض قلبه وتهضم معدته على أحسن وجه ولكن إرادته لا أثر لها في ذلك.
وتصدر من الإنسان أعمال بعد التفكير في نتائجها وإرادة عملها، كمن يرى أن بناء مستشفى في بلده ينفع قومه ويخفف مصائبهم فيتبرع بالمال لبنائه وإدارته، وكمن يقدم على قتل عدوه فيفكر في وسائل ذلك ثم ينفذ ما عزم عليه، فهذه الأعمال تسمى «أعمالإ إرادية» وهي موضوع علم الأخلاق، فيحكم عليها بأنها خير أو شر، وعلى فاعلها بأنه خير أو شرير.
وهناك نوع من الأعمال بين الاثنين، فله شبه بالأعمال الإرادية وله شبه بالأعمال غير الإرادية، فهل هو من موضوع علم الأخلاق؟ كما في الأمثلة الآتية: (1)
من الناس من يأتي أعمالإ وهو نائم، فلو أن أحدهم أشعل نارا بمنزله وهو في هذه الحالة، أو أطفأ نارا كادت تحرق المنزل، فهل هذا عمل إرادي يحكم عليه بأنه خير في الحالة الأولى وشر في الثانية؟ (2)
قد يصاب إنسان بداء النسيان فيترك عملا كان يجب عليه عمله في وقته، أو يخلف موعدا وعده. (3)
قد يستغرق الفكر عمل، كمن يشتغل بحل مسألة هندسية، أو يقرأ في رواية لذيذة، فيلهيه ذلك عن درس واجب أو عمل مفروض.
هذه الأعمال كلها - بالتأمل فيها - نرى أنها أعمال غير إرادية، فليس النائم في المثال الأول قد تعمد إحراق المنزل وقدر نتائجه، لذلك لا يحكم على عمله هذا بأنه خير أو شر، لأنه لا إرادة له، ولا يسأل عنه، وإنما يسأل عنه ويحاسب عليه إذا كان يعلم أنه مصاب بهذا المرض وأنه يأتي أعمالا خطرة وهو نائم، ثم لم يحتط وقت صحوه وانتباهه لما قد يحصل عند نومه، بأن يحول بين نفسه والنار وأدواتها، فهو مسئول خلقيا عن عدم الإحتياط وقت الإنتباه، لأنه شيء إرادي، كان في مكنته أن يحتاط له ثم لم يفعل، وكذلك الشأن في الأمثلة التي ذكرناها ونحوها، فلو أنك نمت وتركت النار مشتعلة في موقد ثم طارت شرارة أحرقت المنزل لا يسمع لقولك: «إن هذه ليست خطيئتي ولست قادرا أن أمنع النار أن ترمي بالشرر وأنا نائم» إذ يقال لك: «إنك عالم أن ستنام، وقد أردت النوم، وعالم أن النار مشتعلة، وكان في إمكانك أن تحتاط وقت انتباهك باطفائها، وعالم أنك ستكون في حالة عدم شعور، فكان ينبغي أن تستعد وقت شعورك لما قد يطرأ وقت عدم شعورك، وذلك باطفاء النار ، فنحن إنما نحكم عليك بالخطأ والصواب بالنظر إلى عدم الإحتياط، وهو شىء إرادي».
ومثل ذلك الإتيان بعمل مع الإعتذار بجهل النتائج التي تصدر عنه - وكمن كان يعلم من نفسه أنه حاد الطبع غضوب، لا يضبط نفسه عند سماع كلمة تؤلمه، فيسب أو يضرب من غير شعور، فلو أنه غشى الجمعيات التي هي مظنة لإثارة غضبه وأتى بما يستنكر كان مسئولا عن عمله، - لما ذكرناه - وكذلك الأعمال التي أعتيدت حتى صار صاحبها يأتيها من غير إرادة، فإنه يسأل عنها، لأن الإعتياد نتيجة عمل إرادي متكرر، فلا يعذر طالب بأنه إنما يدخن لأن التدخين أصبح عادة متمكنة منه، لأنه - على فرض تمكنه كما يدعي - إنما إنغمس في هذه العادة بعد أن دخن جملة مرات وهو حر مختار مريد حتى صارت عادة، وهكذا.
Неизвестная страница