أهم عامل في تكون المثل المنزل والمدرسة والدين، فتربية الناشئ المنزلية، وما يسمعه من أبويه، والنظام الذي يسير عليه بيته وما يراه في المدرسة، وما يسمعه من مدرسيه، وما يلزمونه بقراءته من الكتب، وما يحببونه إليه من عظماء الرجال، والدين الذي يتدين به، وما يحويه من نظام، وما يرسمه من شكل الحياة الأخرى، كل ذلك له أكبر الأثر في تكوين المثل الأعلى، وكذلك غرائز الإنسان الطبيعية لها أثر كبير في انتخاب الصورة التي تتخذ مثلا، فالميول الموروثة من شجاعة وهمة أو جبن وخمول تعين على تحديد المثل الأعلى، وهى عامل قوي في تكوينه. (4) نمو المثل الأعلى (رقيه وانحطاطه)
يكاد يكون لكل إنسان مثل أعلى ولكن لا يشعر به من أين أتاه، وسبب ذلك أن المثل يتكون مع الإنسان في نشأته وينمو بنموه، فلم يكن شيئا جديدا منفصلا عنه حتى يشعر به، ويعرف متى أتاه، ومن أين جاءه، يتكون المثل جرثومة في أثناء التربية المنزلية، ويكون لما يسمعه من القصص - ولو خرافية - دخل في تكوينة، ثم يتوارد عليه التغير كلما وجد مؤثر جديد، من رواية يقرؤها أو حكاية يسمعها أو تمجيد لعمل عظيم، أو ذم لعمل حقير، وإن في طبيعة الناشئين في أول حياتهم ميلا إلى سماع قصص الأبطال وكبار الأعمال وعجائب الحوادث، وذلك - ولا شك - مما يساعد على تنمية المثل عندهم، فإذا خرج الشاب إلى معترك الحياة كان لتجاربه في عمله، وتبادل الأخذ والعطاء مع الناس ما يحدد غايته في الحياة وينير أمله ويوضح مثله، وباتساع نظر الإنسان في الحياة وكبر عقله، يكمل المثل وتتم أجزاؤه.
وكما أن المثل عرضة للكمال والإتساع كما بينا كذلك هو عرضة للنقص والضيق، فالعمال الذين يقضون حياتهم في عمل يدوي محدود، ثم لا يصادفون بعد قضاء نهارهم ما يفيد عقلهم، أو يوسع نظرهم، يضيق مثلهم، ويتحدد أملهم، وذلك شأن طائفة كبيرة من العمال وكتبة الدواوين الذين لا يؤدون في الحياة غير عملهم الآلي، فلا يرقون مداركهم، ولا يوسعون أنظارهم، وحياتهم ليست إلا يوما واحدا متكررا.
وفي ضيق المثل خطر عظيم، فالمثل هو الذى يبعث في الإنسان روح العمل، ويزيد في نشاطه وقوته، وهو الذى يصحح حكمه على الأشياء، فالإنسان عادة عند الحكم على شىء أو نقده يقيسه بمثله، ثم يحكم بالخطأ أو الصواب، وبالخير أو الشر، فإذا تحدد المثل وضاق قل نشاطه وساء حكمه، وعلى العكس من ذلك إذا ترقى مثله.
الفصل العاشر
الفضيلة
(1) معنى الفضيلة
الفضيلة هي الخلق الطيب، والخلق هو «عادة الإرادة» فإذا اعتادت الإرادة شيئا طيبا سميت هذه الصفة فضيلة، والإنسان الفاضل هو ذو الخلق الطيب الذي اعتاد أن يختار أن يعمل وفق ما تأمر به الأخلاق، وبذلك يكون الفرق بين الفضيلة والواجب واضحا، فالفضيلة صفة نفسية، والواجب عمل خارجي، وعلى هذا يقال: فلان أدى الواجب ولا يقال: أدى الفضيلة بل حاز الفضيلة.
وقد تطلق الفضيلة على العمل نفسه فيقال: «فضائل الأعمال» وليس يعنى بها كل عمل أخلاقي بل الأعمال العظيمة التي يستحق فاعلها الثناء الجزيل، فلا نسمي دفع ثمن ما اشترى فضيلة، إنما يسمى الإتيان بالعمل الكبير مع تحمل المشاق في سبيله فضيلة، ويشهد لهذا المعنى اشتقاق الكلمة نفسها، فإنها مأخوذة من الفضل وهو الزيادة، وعلى هذا المعنى تكون «الفضيلة» أخص من «الواجب». (2) اختلاف الفضائل
تختلف قيمة الفضائل في الأمم اختلافا كبيرا، فلو أنا وضعنا لأمة قائمة تتضمن الفضائل مرتبة حسب أهميتها لها لوجدناها تخالف ما يجب أن يوضع لأمة أخرى، ذلك لأن ترتيب الفضائل في كل أمة يجب أن يتبع مركزها الإجتماعي وظروفها المحيطة بها، وما يفشو فيها من أمراض أخلاقية، وما اعتورها من أشكال حكومات ونحو ذلك، فترتيب الفضائل في الأمة المحكومة غيره في الأمة الحاكمة، وفي الأمة الآخذة بحظ وافر من المدنية غيره في الأمة البدوية، وفي الأمة البحرية غيره في الأمة ساكنة الصحراء وهكذا، فالأمة المهددة بالحروب ترى الشجاعة أهم فضيلة، والأمة الآمنة المطمئنة ترى العدل خير فضيلة، والأمة التي تحيا على الصناعة ترى الأمانة والإستقامة عماد الفضائل، وهكذا.
Неизвестная страница