خطبة واصل بن عطاء - ضمن نوادر المخطوطات
خطبة واصل بن عطاء - ضمن نوادر المخطوطات
Исследователь
عبد السلام هارون
Издатель
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
Номер издания
الثانية
Год публикации
١٣٩٣ هـ - ١٩٧٢ م
Жанры
كتاب خطبة واصل بن عطاء ٨٠ - ١٣١
1 / 117
مقدمة
واصل بن عطاء - تلقيبه بالغزال - هو والجاحظ - عبقرية واصل - لثغته - الراء من أكثر الحروف دورانا في العربية - الجاحظ يعقد فصلا للثغة - شهرة لثغة واصل - علة تجنبه للراء - نماذج لمجانبته الراء مما ذكره الجاحظ - نماذج مما ذكره غيره الجاحظ - حادث خطبة واصل - تاريخ الخطبة - خطبة واصل في التاريخ - قيمة هذه الخطبة - شبهها ببعض خطب عصره - ابن زيدون وواصل بن عطاء - نص الخطبة.
واصل بن عطاء:
ليس أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال، مولى بني ضبة أو بني مخزوم، في حاجة إلى أن نسهب في التعريف به، فإنه رأس المعتزلة، وأول إمام قوي دفع مذهب الاعتزال، وكون الفرقة الأولى من فرق المعتزلة العشرين (^١).
ولم يختلف المؤرخون أنه ولد بمدينة الرسول، سنة ثمانين للهجرة، وأنه نزح إلى العراق وأقام بها، ولزم الحسن البصري يحضر مجالسه ويقبس من علمه، إلى أن كان ما كان من قول واصل وصاحبه عمرو بن عبيد بالمنزلة بين المنزلتين، فكان ذلك سببًا للقطيعة بين الحسن، وبين واصل وزميله، وانتقل ميدان الرأي من مجلس العلم إلى الرأي العام، فكان للاعتزال أنصاره الذين ينضوون تحت لوائه، وصار مذهبًا من المذاهب القائمة.
تلقيبه بالغزال:
وقد اختلف الناس في تلقيب واصل بالغزال، فمنهم من زعم أنه كان غزالًا، وأصح القولين أنه إنما لقب بذلك لأنه كان يكثر الجلوس في سوق الغزالين إلى
_________
(^١) هي الواصلية، والعمرية، والهذيلية، والنظامية، والأسوارية، والإسكافية، والجعفرية، والبشرية، والمعمرية، وأصحاب عيسى بن صبيح، والثمامية، والهشامية، والجاحظية، والخياطية، والكعبية، والصالحية، والخابطية، والحديثية، والشحامية، والبهشمية.
1 / 118
أبي عبد الله مولى قطن الهلالي (^١). ويذكرون أنه كان يلازم الغزالين ليعرف المتعففات من النساء ممن يتردد عليهم، فيجعل صدقته لهن (^٢). ويذكرون من أمثال ذلك في النسبة بعض الأعلام كخالد الحذاء، قيل إنه سمي بذلك لأنه تزوج امرأة فنزل عليها في الحذّائين فنسب إليها (^٣). وهشام الدستوائي إنما قيل له ذلك لأن الإباضية كانت تبعث إليه من صدقاتها ثيابًا دستوائية فكان يكسوها الأعراب الذين يكونون بالجناب (^٤).
هو والجاحظ:
وبدهي أن الجاحظ لم يدرك واصل بن عطاء، لأن مولد الجاحظ كان في سنة ١٥٠ ووفاة واصل كانت في سنة ١٣١ (^٥).
لكن الجاحظ قد أدرك رجلا له صلة بواصل بن عطاء، هو جعفر بن أخت واصل، عرفه الجاحظ، وسمع منه إنشادًا لشعر رواه في كتاب الحيوان (^٦)، كما روى عنه شيئًا من الدعابة في البيان (^٧).
والجاحظ يعجب بواصل وبصحة عقله، فهو يقول في كتاب الحيوان (^٨) عند الكلام على الجن: «لأنهم لم يسلطوا على الصحيح العقل. ولو كان ذلك
_________
(^١) البيان ١: ٣٣ والكامل ٥٤٦ ليبسك.
(^٢) الكامل وابن خلكان في ترجمة واصل.
(^٣) أي إلى قطيعة الحذائين. البيان ١: ٣٣ والسمعاني ١٦٠.
(^٤) البيان ١: ٣٣.
(^٥) لسان الميزان في ترجمة واصل، والنجوم الزاهرة ١: ٣١٣ ومسالك الأبصار (القسم الثاني من الجزء الثامن ص ٤٩٦ من مصورة دار الكتب رقم ٢٥٦٨ تاريخ وعيون التواريخ ٢٠ لابن شاكر الكتبي مخطوطة دار الكتب المصرية في وفيات الأعيان ١٣١، وكذا شذرات الذهب لابن العماد في تلك السنة، وفوات الوفيات في ترجمته. وفي أصل معجم الأدباء ٧: ٢٢٥ مرجليوث، أنه توفى سنة إحدى و(بياض) ومائة. والذي في وفيات الأعيان أنه توفى سنة ١٨١. وهو خطأ ظاهر
(^٦) الحيوان ٧: ٢٠٤ - ٢٠٥.
(^٧) البيان ٢: ٢٣٤.
(^٨) الحيوان ٦: ١٦٠.
1 / 119
إليهم لبدءوا بعلي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وبأبي بكر وعمر في زمانهم وبغيلان والحسن في دهرهما، وبواصل وعمرو في أيامهما.
عبقرية واصل:
ويبدو أن واصلا كان على جانب عبقري من الذكاء وجرأة العقل والقلب.
يقول المبرد (^١): «وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم. وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج إليهم فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله وليعرفوا حدوده.
فقالوا: قد أجرناكم. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال: ليس ذلك لكم. قال اللّه ﵎: «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه»؛ فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم. فساروا بأجمعهم حتى بلغوهم المأمن.
وهذا الخبر على به من أثر الصنعة يطوي وراءه اعترافًا بعبقرية هذا الرجل وزعامته الفطرية. على أن شيئًا مما ذكر ليس يعنينا لذاته، وإنما ليلقي ضوءًا على حياة هذا الرجل الذي هو رأس من رؤوس المعتزلة الذين قامت دعوتهم على المناظرة والمجادلة الملحة، والتي اعتمدت في أكثر ما تعتمد على الخطابة وعلى البيان، وعلى الجرأة في مواقف المخاصمة والمنازعة.
لثغة واصل:
ولكل حسناء ذامها، فهذا الخطيب واصل، مع ما رزقه الله من بيان وحسن تصريف للقول، كان صاحب عاهة منطقية عرف بها وذاعت بين الناس،
_________
(^١) الكامل ٥٢٨ ليبسك. وقد روى هذا الخبر موجزا ابن قتيبة في عيون الأخبار ١: ١٩٦.
1 / 120
وهي لثغة شنيعة كانت تقع له في حرف الراء فتحرجه في ذلك أيما إحراج فيتأتى لها بمجانبتها إلى سواها من الحروف، ويحمل على نفسه في هذا الأمر ويجهدها فيوفق توفيقًا بالغًا.
قال أحد معاصريه (^١):
ويجعل البر قمحًا في تصرفه … وجانب الراء حتى احتال للشعر (^٢)
ولم يطق مطرًا والقول يعجله … فعاذ بالغيث إشفاقًا من المطر
قال الجاحظ: وسألت عثمان البري: كيف كان واصل يصنع في العدد، وكيف كان يصنع بعشرة وعشرين وأربعين، وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الآخرة ورجب؟ فقال: ما لي فيه إلا ما قال صفوان:
ملقن ملهم فيما يحاوله … جمٌّ خواطره جواب أفاق
الراء من أكثر الحروف دورانا:
وقد لحظ الجاحظ، وهو صادق فيما فطن له، أن الراء من أكثر الحروف دورانا في الكلام العربي، قال (^٣): أنشدني ديسم قال: أنشدني أبو محمد اليزيدي:
وخلة اللفظ في الياءات إن ذكرت … كخلة اللفظ في اللامات والألف
وخصلة الراء فيها غير خافية … فاعرف مواقعها في القول والصحف
يزعم أن هذه الحروف أكثر تردادًا من غيرها، والحاجة إليها أشد.
ثم قال الجاحظ: «واعتبر ذلك بأن تأخذ عدة رسائل وعدة خطب من جملة خطب الناس ورسائلهم، فإنك متى حصلت جميع حروفها وعددت كل شكل على حدة علمت أن هذه الحروف الحاجة إليها أشدّ».
_________
(^١) البيان ١: ٢١.
(^٢) من أسماء الشعر مما ليس فيه الراء «السبد» بالتحريك، و«الهلب» بالضم، و«اللمة»:
ما زاد على الجمة، و«الخصلة» بالضم: ما اجتمع من الشعر كذلك. انظر المخصص ١: ٦٢ - ٦٩.
(^٣) البيان ١: ٢٢.
1 / 121
وهذه براعة عجيبة للجاحظ: أن يتجه فكره في عصره إلى مثل هذه الطريقة التي لم تشهر ولم يعرف الاتجاه إليها في البحوث اللغوية والأدبية إلا منذ عهد قريب:
الجاحظ يعقد فصلا للثغة:
هذه اللثغة الشنيعة التي كانت تقع لواصل، هي أقوى الدوافع التي دعت الجاحظ - وهو الذي نصب نفسه مدرهًا للمتكلمين وللمعتزلة بوجه خاص، أن يعقد في كتابه فصلا طويلا في اللثغة (^١) يبين فيه أنها تقع في أربعة حروف، وهي القاف والسين واللام والراء، ولكل من هذه الحروف ضروب من اللثغ ولا سيما الراء فإن لها ضروبًا أربعة، إذ تقلب ياءً كما يقال في عمر عمي، أو عينًا كما يقال عمغ، أو ذالا فتقول عمذ، أو ظاء فتقول عمظ، ثم يخص ضربا لها خامسا بالذكر لا يصوّر بالكتابة، وإنما سبيله المحاكاة والنطق، وهذا الضرب هو الذي كان يعرض لواصل بن عطاء، ولسليمان بن يزيد. قال الجاحظ في تلك اللثغة: «فليس إلى تصويرها سبيل».
وقد وجدت برهان الدين الوطواط في كتابه غرر الخصائص (^٢) يزعم أن لثغة واصل. كانت بالظاء أخت الطاء، على حين لم يعين الجاحظ نوعها، وكأنها كانت حرفًا بين حرفين، أو مزيجًا من حروف. ولو كانت حرفًا واحدًا لعينه الجاحظ، وهو من أقرب الناس به عهدًا، وأخبرهم به علما.
شهرة لثغة واصل:
قلت: إن لثغة واصل كانت أمرًا متعالما، ذكرها كل من ترجم له، ونطقت بها آثار الشعراء. فهذا أبو محمد الخازن يقول من قصيدة مدح بها الصاحب إسماعيل بن عباد (^٣):
_________
(^١) البيان: ٣٤ - ٣٧.
(^٢) غرر الخصائص ص ١١٤.
(^٣) وفيات الأعيان، ترجمة واصل، وكذا مسالك الأبصار، وقد سبقت الإشارة إليه.
1 / 122
نعم، تجنب «لا» يوم العطاء كما … تجنب ابن عطاء لفظة الراء
وقال الأرجاني:
ذا متعاضٍ أخفى اختلالي عن الرا … ئي كإخفاء واصل للراءِ (^١)
وقال: فيما رواه ابن شاكر في عيون التواريخ، وليس في ديوانه:
هجر الراء واصل بن عطاء … في خطاب الورى من الخطباء
وأنا سوف أهجر القاف والرا … ء مع الضاد من حروف الهجاء
وقال آخر في محبوب له ألثغ:
أعدْ لثغةً لو أن واصل حاضر … ليسمعها ما أسقط الراء واصل (^٢)
وقال آخر:
أجعلت وصلي الراءَ لم تنطق به … وقطعتني حتى كأنك واصلُ
وقال آخر:
فلا تجعلني مثل همزة واصلٍ … فتلحقني حذفًا ولا راء واصلِ (^٣)
علة تجنب واصل للراء:
هذه العيوب اللسانية التي منها اللثغ تعرض لكثير من الناس من يوم خلق الله الدنيا إلى يومنا هذا، والناس متفاوتون في أقدارها من الشناعة، ويكادون يتفقون على الرضا بها مع طول العهد، وألا يحاولوا تغيير ما صنع الله، وإن كان العلم الحديث في وقتنا هذا يحاول أن يخفف من حدتها، وأن يأخذ بها إلى غير سبيلها، ولكنا لم نسمع فيما يروى التاريخ من محاولة عنيدة للهرب من هذا العيب، كتلك المحاولة التي أرادها واصل، وقسر نفسه عليها، وذلك باجتثاث
_________
(^١) في ديوان الأرجانى ١٣: «عن الرأي»، وهو تحريف. وأراد بالاختلال الخلة والحاجة.
(^٢) كذا عند ابن خلكان. وفي غرر الخصائص ١١٤: «ولثغته لو أن واصل حاضر».
(^٣) هذه رواية ابن خلكان، ولم ينسب البيت. وقد وجدته منسوبا إلى الزمخشري في المضنون به على غير أهله ١٢١ طبع ١٩١٥: «فيسقطنى وصل».
1 / 123
الداء من أصله، وهو التحرز من ذلك الحرف الذي يحمل تلك الشناعة، وهو حرف الراء.
ويوضح الجاحظ علة التجاء واصل إلى مجانبة الراء بقوله (^١): «ولما علم واصل بن عطاء أنه ألثغ فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذ كان داعية مقالة ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بدله من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق، وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وأن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة كحاجته إلى الفخامة والجزالة، وأن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب وتثني إليه الأعناق، وتزيّن به المعاني، وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التام واللسان المتمكن والقوة المتصرفة، كنحو ما أعطى الله ﵎ نبيه موسى ﵇ من التوفيق والتسديد …
ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان وإعطاء الحروف حقها من الفصاحة - رام (^٢) أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتّى لستره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتّسق له ما أمل. ولولا استفاضة هذا الخير وظهور هذه الحال حتى صار لغرابته مثلًا، ولطرافته معلما، لما استجزنا الإقرار به والتوكيد له. ولست أعني خطبه المحفوظة، ورسائله المخلدة، لأن ذلك يحتمل الصنعة، وإنما عنيت محاجة الخصوم، ومناقلة الأكفاء، ومفاوضة الإخوان».
_________
(^١) البيان ١: ١٤ - ١٥.
(^٢) هذا جواب «لما» التي في أول النص.
1 / 124
نماذج لمجانبته الراء مما رواه الجاحظ:
ويذكر نموذجًا من مجانبته الراء إذ يقول (^١): وكان واصل بن عطاء قبيح اللغة شنيعها، وكان طويل العنق جدًا، ولذلك قال بشار الأعمى:
ما لي أشايع غزالا له عنق … كنقنقِ الدوَّ إن ولى وإن مثلا
عنقَ الزرافة ما بالي وبالكم … أتكفرون رجالًا أكفروا رجلا
فلما هجا واصلا وصوّب رأى إلميس في تقديم النار على الطين، وقال:
الأرض مظلمة والنار مشرقة … والنار معبودة مذ كانت النار
وجعل واصلًا غزالًا، وزعم أن جميع المسلمين كفروا بعد وفاة الرسول ﷺ، فقيل له: وعلي أيضًا؟ فأنشد:
وما دون الثلاثة أمَّ عمرو … بصاحبك الذي لا تصبحينا
قال واصل عند ذلك: «أما لهذا الأعمى الملحد المشنف المكنى بأبي معاذ من يقتله، أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله، وفي يوم حفله، ثم كان لا يتولى ذلك منه إلا عقيلي أو سدوسي».
قال إسماعيل بن محمد الأنصاري، وعبد الكريم بن روح الغفاري: قال أبو حفص عمر بن أبي عثمان الشمري: ألا تريان كيف تجنب الراء في كلامه هذا، وأنتما للذي تريان من سلامته وقلة ظهور التكلف فيه، لا تظنان به التكلف مع امتناعه من حرف كثير الدوران في الكلام ألا تريان أنه حين لم يستطع أن يقول بشار وابن برد والمرعث، جعل المشنف بدلًا من المرعث، والملحد بدلًا من الكافر، وقال: لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية، ولم يذكر المنصورية ولا المغيرية لمكان الراء، وقال: لبعثت إليه من يبعج بطنه ولم يقل لأرسلت إليه، وقال: على مضجمه، ولم يقل: على فراشه (^٢).
_________
(^١) البيان ١: ١٦ - ١٧.
(^٢) نحو هذا في كامل المبرد والوفيات نقلا عنه.
1 / 125
نماذج مما ذكره غير الجاحظ:
ويسجل له ابن شاكر في عيون التواريخ (^١) احتيالًا آخر للراء، فقد ذكر أنه أمتحن حتى يقرأ سورة براءة، فقرأ من غير فكر ولا روية: «عهد من الله ونبيه إلى الذين عاهدتم من الفاسقين. فسيحوا في البسيطة هلالين وهلالين».
ويذكر ابن العماد الحنبلي (^٢) أنه دفعت إليه رقعة مضمونها: «أمر أمير الأمراء الكرام أن تحفر بئر على قارعة الطريق فيشرب منها الصادر والوارد»، فقرأ على الغور: «حكم حاكم الحكام الفخام، أن ينبش جب على جادّة الممشى فيستقى منه الصادي والغادى».
وهذه الرواية توحي بأن واصلًا كان يشعر بتلك العاهة شعورا مستبدًا تجعله يتجنب الوقوع في أشراكها، وتوحي أيضًا بأن القوم كانوا يداعبونه على ضوئها، ويتحينون الفرص للتندّر به وبها (^٣).
_________
(^١) مخطوطة دار الكتب المصرية، حوادث سنة ١٣١.
(^٢) شذرات الذهب حوادث سنة ١٣١.
(^٣) من طرائف الأدب العربي صور يجرى فيها الشعراء على نهج من يعجبون به من أصحاب اللثغ. روى ابن شاكر وابن خلكان قول أبى نواس:
وشادن سألته عن اسمه … فقال لي باللثغ عباث
بات يعاطينى سخامية … وقال لي قد هجع الناث
أما ترى حثن أكاليلنا … زينها النثرين والآث
فعدت من لثغته ألثغا … فقلت أين الكاث والطاث
وروى ابن شاكر في عيون التواريخ لعين بصل - وهو شاعر عامي أمي، ترجم له في فوات الوفيات، واسمه إبراهيم بن علي -:
يقول وقد داومت تقبيل ثغره … بلثغته: حثبى أخذت منافتى
ثكرت بحثو الخندريس وكاثنا … تحث وثكرى قد أزال وثاوثى
وروى ابن خلكان كان للخبز أرزى:
في فمه درياق لدغ إذا … أحرق قلبي شدة اللدغ
إن قلت في ضمى له أين هو … تفديك روحي قال لا أدغى
1 / 126
حادث خطبة واصل:
كان ذلك حفلًا جامعًا حشد له أقدر الخطباء وأبرعهم براعة، وكان ذلك بالعراق، إذ اجتمع علية القوم والناس ليشهدوا حفلا عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز (^١) وإلى العراق، تبارى فيه هؤلاء الخطباء، وهم خالد بن صفوان، وشبيب بن شيبة، والفضل بن عيسى، وواصل بن عطاء، وتناوبوا القول على المنبر على هذا النظام، فانتزع خالد وشبيب والفضل قبله إعجاب القوم انتزاعا، فهم كانوا سادة الخطباء في ذلك الزمان، وهم كانوا قد أعدّوا خطبهم من قبل وحبَّروها ونمقوها، وما إن فرغ الثلاثة حتى نهض واصل يهدِر، وبداهته تغلى، بخطبة ارتجلها ارتجالا، واقتضبها اقتضابا، وأطال فيها إطالة (^٢)، وحرص كل الحرص على أن ينزع الراء منها، ففاق إعجابُ الناس والوالي بواصل بن عطاء إعجابهم بالثلاثة قبله، وأظهر الوالي الصّلات، فأجزل صلات الثلاثة قبله، ثم ضاعف لواصل الصلة تقديرًا لعبقريته الخطابية النادرة.
وقد سجّل شاعران معاصران لواصل هذا الحادث تسجيلا صادقا، أحدهما بشار، يقول في كلمة له:
_________
(^١) عبد اللّه هذا هو صاحب نهر ابن عمر، حفره بالبصرة. انظر معجم البلدان. وكان واليا ليزيد بن الوليد بن عبد الملك على العراق، ولاه إياها بعد عزل منصور بن جمهور، وذلك سنة ١٢٦. وقد ظل في ولايته على العراق في فترة مملوءة بالفتن والأحداث حتى قبض عليه يزيد بن عمر بن هبيرة، من قبل مروان بن محمد آخر الأمويين، وذلك في سنة ١٢٩. وكانت وفاته في سنة ١٣٢ كما في النجوم الزاهرة. وأما يزيد بن الوليد هذا فهو الذي كان يقال له «يزيد الناقص» لنقصه أعطية الجند، وهو الذي ثار على ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك الخليفة الماجن، ودغا إلى خلعه، فاستجابت له اليمن وبايعوه، وقتلوا الوليد، وذلك في جمادى الآخرة من سنة ١٢٦ وتوفى يزيد في السنة نفسها في ذي الحجة. تاريخ الطبري حوادث ١٢٦ - ١٢٩ ويذكر الطبري في تاريخه ٩: ٤٦ والمسعودي في مروج الذهب ٣: ٢٣٤ أن يزيد بن الوليد كان يذهب إلى قول المعتزلة.
(^٢) قال الجاحظ: لأنه كان مع ارتجاله الخطبة التي نزع منها الراء كانت مع ذلك أطول من خطبهم.
1 / 127
أبا حذيفة قد أوتيت معجبةً … في خطبة بدهَتْ من غير تقدير
وإن قولًا يروق الخالَدينِ معا … لمسكت مخرِسٌ عن كل تحبير (^١)
وقال بشار أيضًا:
تكلّفوا القول والأقوام قد حفلوا … وحبَّروا خطبًا ناهيك من خطب
فقام مرتجلا تغلى بُداهته … كمِرجل القين لما حُفّ باللهب
وجانب الراء لم يشعر بها أحد … قبل التصفح والإغراق في الطلب
وقال أيضًا:
فهذا بديهٌ لا كتحبير قائل … إذا ما أراد القول زوّره شهرًا
والشاعر الآخر المعاصر هو صفوان الأنصاري، يقول في كلمة له:
فسائل بعبد الله في يوم حفلهِ … وذاك مقام لا يشاهده وغدُ
أقام شبيبًا وابن صفوان قبله … بقول خطيب لا يجانبه القصد
أقام ابن عيسى ثم قفّاه واصل … فأبدع قولًا ما له في الورى ندٌّ
فما نقصته الراء إذ كان قادرًا … على تركها واللفظ مطرّد سَرْد
ففضّل عبد الله خطبهَ واصلٍ … وضوعف في قَسم الصلات له الشُّكْد
فأقنع كلَّ القوم شكر حبائهم … وقلل ذاك الضعف في عينه الزهدُ
تاريخ الخطبة:
ويمكننا أن نعين تاريخ هذا الحفل الذي خطب فيه واصل أنه كان ما بين جمادى الآخرة من سنة ١٢٦ إلى سنة ١٢٩ كما يتضح من التحقيق الذي أشرت إليه في الحواشي قريبًا، إذ أنه المدة المقدورة التي قضاها عبد اللّه بن عمر بن
_________
(^١) يعنى بالخالدين خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، كما في حواشي أبي ذر الخشني على البيان والتبيين، وهذا على ما يسمونه التغليب.
1 / 128
عبد العزيز في ولاية العراق. والأرجح أنه كان في الشهور الأولى من هذه الفترة حيث كان المألوف والمتبع أن يجتمع الناس للاحتفاء بالوالي وتكريمه.
خطبة واصل في التاريخ:
اكتسبت خطبة واصل هذه شهرة تاريخية، وليس من أديب شادٍ إلا وهو يعرف هذه الشهرة. ولسنا نجد في الكتب المطبوعة نصًا كاملا محققا لخطبة واصل، إلا ما ورد محرفًا منقوصًا في كتاب مفتاح الأفكار، للشيخ أحمد مفتاح، وأدبيات اللغة العربية (^١). والمؤرخون الذين ترجموا لواصل يذكرون في ثبت كتبه القليلة «كتاب خطبة واصل». وأقدم من ذكرها ابن النديم المتوفي سنة ٣٨٥ في الفهرست (^٢)، ذكرها في ثبت مرويات أبي الحسن علي بن محمد المدائني. وبدهي أن المؤرخين لم يعنوا بكلمة «كتاب» تلك الصورة التي نعرفها من الضخامة، وإنما يعنون معناها اللغوي البحت، وهو المكتوب مهما يكن مقداره.
ولقد قام الأستاذ الكبير «أحمد زكى صفوت» الأستاذ بكلية دار العلوم، بعمل تأليفى ضخم، ضمّ به أشتات خطب العرب في كتابه جمهرة خطب العرب، ووقع تحت يده الكثير من أمهات كتب الأدب المخطوط منها والمطبوع، فظفر بنصوص نادرة لخطب المشارقة والمغاربة، ووقع تحت عينه كثير مما غاب عن أبصار غيره، ولكنه لم يظفر - حفظه الله - بنص هذه الخطبة إلا في كتاب مفتاح الأفكار (^٣).
وعندما قمت بتحقيق كتاب البيان والتبيين حاولت أن أعثر على هذا النص مخطوطًا، فلم أجد إلا خبرًا في «مخطوطات الموصل» للدكتور داود جلبي، إذ ورد في ص ٢٠٨ أن نسخة من هذه الخطبة محفوظة في مكتبة مدرسة النبي شيث
_________
(^١) مفتاح الأفكار ٢٧٠ - ٢٧١ طبع ١٣١٤ وأدبيات اللغة العربية ٢١٢ - ٢١٤ طبع ١٩٠٦ م.
(^٢) الفهرست ١٥٢.
(^٣) جمهرة خطب العرب ١: ٤٨٢ - ٤٨٤.
1 / 129
بالموصل، فطلبت إلى أحد العراقيين من طلبتي بكلية الآداب بجامعة فاروق حينما كنت أقوم بالتدريس فيها، أن يستنسخ لي صورة منها فلم يوفق. وعندما أو شكت أن أتم طبع نسختي من البيان والتبيين وقفت على شريط منه من مخطوطات تركيا التي اجتلبها معهد المخطوطات بالجامعة العربية، وهي نسخة مكتبة (فيض الله)، فحصلت على صورة منه، ووجدت في نهاية النسخة ورقة ملحقة، بها نص كامل لخطبة واصل، بخط كاتب النسخة، وهو محمد بن يوسف اللخمي، كتب النسخة سنة ٥٨٧ وقرأها على الإمام أبي ذر الخشني، فكان سروري بهذا النص النادر أشد من سروري بتلك النسخة العتيقة من كتاب البيان والتبيين. ولكني مع ذلك لم أقنع بهذا الظفر، فجعلت أقلب في كتاب مسالك الأبصار، وهو من أكبر الموسوعات الأدبية التاريخية الجديرة بالنشر، فوجدت نسخة من الخطبة بها قليل من التحريف، فاعتمدت على هاتين النسختين في نشر هذه التحفة، التي يضاعف من سروري أن أكون أول ناشر لها نشرا علميًا مقرونًا بدراسة أدبية تاريخية.
قيمة خطبة واصل:
تستمد خطبة واصل قيمتها من الظروف التي أحاطت بها، وقد سردتها في تضاعيف ما مضى من الكلام. ولسنا بحاجةٍ إلى أن نعيد القول في أن خطبة طويلة تقال ارتجالا واقتضًابًا في مقام رهيب، ويقتدر صاحبها على الاستغناء عن حرف هو من أكثر الحروف دورانا في الكلام (^١) على حين أنها خطبة تتسم بطابع ديني، وتقتبس فيها معاني القرآن وأساليبه ونصوصه، فلا يفر صاحبها من أن يزوّد خطبته بذلك الزاد، ولكنه يفرُّ في حذق من ألفاظ معينه إلى مرادف لها - كل أولئك إنما ينبئ عن قدرة فنية لا تتأتى إلا للأفذاذ من الخطباء، فهو
_________
(^١) حفظ لنا التاريخ بعض الخطب التي نزعت منها حروف معينة، كخطبة أحمد بن علي بن الزيات المالقى المتوفى سنة ٧٢٨ فقد نزع منها (الألف)، أولها: «حمدت ربى جل من كريم محمود، وشكرته عز من عظيم معبود»، ولكنها لم تكن مرتجلة كخطبة واصل. انظر الإحاطة ١: ١٥٤ وجمهرة خطب العرب للأستاذ صفوت ٣: ٢٢٦.
1 / 130
حين يريد أن يقول «أعوذ بالله القوي من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم» يقول: «أعوذ بالله القوى، من الشيطان الغويّ، بسم الله الفتاح المنان». وإذا أراد أن يتلوَ سورة كاملة من الكتاب قرأ سورة الإخلاص لخلوّها جميعها من الراء.
وحين يريد أن يقتبس من القرآن الكريم: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» يقول: «لا يحويه زمان ولا يحيط به مكان ولا يئوده حفظ ما خلق». وإذا أراد أن يقول: «لا يعزب عنه مثقال ذرة» قال: «مثقال حبة»، وإذا أحب أن يقتبس من قوله تعالى: «أصبحوا لا تَرَى إلا مساكنهم (^١)» قال: «أصبحوا لا نعاين إلا مساكنهم». وإذا طلب أن يقول: «فبلغ رسالته» قال: «فبلغ مألَكته» .... إلى كثير من أشباه هذا.
والخطبة كذلك تقدم لنا نموذجا من خطب القرن الثاني الهجري، من الخطب التي تجنّبت السياسة والدعوة السياسية، وتجنّبت فتن المذاهب والدعوة المذهبية، فهي نموذج لخطب الوعظ الخالص (^٢). ابتدأها بحمد الله والثناء عليه (^٣)، ثم ثّنى بالشهادتين في إسهاب طيّب، وعقّب على ذلك بالصلاة على الرسول الكريم مثنيًا عليه، ثم حثَّ على التقوى والطاعة، ومال بعد ذلك إلى التحذير من مفاتن الدنيا والتهوين من شأن من أطاعتهم الدنيا وأغدقت عليهم ثم صاروا من بعدُ هامًا وأحاديث. ثم دعا لنفسه والناس أن يكونوا ممن ينتفع بالموعظة الحسنة، ثم نوّة بفضل القرآن وتلا ما تيسَّر له منه، بعد أن أجرى الاستعاذة والبسملة أيضًا على أسلوبه الذي يجانب الراء.
_________
(^١) هذه إحدى القراءات في الآية، وهي الخامسة والعشرون من سورة الأحقاف. انظر كتب القراءات والتفسير فيها.
(^٢) كان واصل كما يروون على جانب من الزهد والتقوى، روى له الجاحظ في البيان ٣: ١٩٦ قوله: «المؤمن إذا جاع صبر، وإذا شبع شكر». وروى صاحب الأغانى ٣: ٤٠: «كان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها، لحبائل هذا الأعمى الملحد»، يعنى بشارا وما كان يقول من غزل ومجون فاجر.
(^٣) كان هذا أمرا محتما في كل خطبهم في ذاك العصر، وكانوا يعدون الخطبة الخالية من هذا أمرا شنيعا، حتى لقد سموا خطبة زياد التي لم يلتزم فيها ذلك خطبة بتراء.
1 / 131
وشيء آخر يلمع لنا من ثنايا الخطبة، فهذه الخطبة التي هي أشبه ما تكون بخطبة تقال في يوم الجمعة قد قيلت في مناسبة رسمية كما يقولون، وكان من المتوقع فيها أن يثنى القوم على الأمير ويذكروا فضله وآلاءه، وينوَّهوا بُيْمن عهده وازدهار أيامه، ولكن يبدو أن الطابع الديني كان غلابًا في ذلك الزمان، والرهبة الدينية كانت لا تزال في قوتها وسلطانها، فإن القوم كانوا ينتهزون مختلف الفرص ليقوموا بواجب التذكير والوعظ، والإرشاد والهداية.
والناظر في خطب هذه الفترة يجد شبها كبيرا بين هذه الخطبة وخطبة عمر ابن عبد العزيز (^١)، وكذا بينها وبين خطبة سليمان بن عبد الملك (^٢)، اجتمع فيها كلها التحذير من مفاتن الدنيا، وتصوير نهاية الأحياء في ذل وهوان، كما اشتملت على التنويه بفضل القرآن والحث على اتّباع آيه وهديه، كما اتفقت في الأسلوب المبنى على المزاوجة، وظهور السجع اليسير في غير ما تعمُّل.
ابن زيدون وواصل بن عطاء:
هما موقفان تاريخيان، أما موقف واصل فقد ألقى الضوء عليه، وأما موقف ابن زيدون فهو ذلك الموقف البياني الحرج الذي وقفه عند منصرَف الناس وعظمائهم وكبرائهم من جنازة ابنته التي واراها التراب، إذ نهض ونهض معه بيانهُ يشكر لهذا بقول غير ما يقوله لذاك، فيقولون: إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة لأحد.
وهو عجيب حقًا في ذلك الظرف الذي يغيض معه البيان، ويهرب اللسان.
قال الصفدي: «وهذا من التوسع في العبارة، والقدرة على التفنن في أساليب الكلام (^٣)، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأرى أنَّه أشقّ مما يحكى عن واصل بن عطاء، أنه ما سمعت منه كلمة فيها راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة
_________
(^١) عيون الأخبار ٢: ٢٤٦.
(^٢) عيون الأخبار ٢: ٢٧٤.
(^٣) نفح الطيب ٢: ٢٨٣ طبع ليدن. وقد نص المقرى أنه نقل كلام الصفدي ملخصا.
1 / 132
قبيحة. والسبب في تهوين هذا الأمر وتهويله أن واصل بن عطاء كان يعدِل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء، وهذا كثير في كلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ فرسٍ مثلا قال: جواد أو ساٍع أو صافن؛ أو العدول عن رمح قال: قناة أو صعدة أو يزنىّ أو غير ذلك؛ أو العدول عن لفظ صارم قال: حسام أو لهذم أو غير ذلك. وأما ابن زيدون فأقول في حقه: أقل ما كان في تلك الجنازة وهو وزير ألف رائسٍ ممن يتعيّن عليه أن يتشكَّر له ويضطرّ إلى ذلك، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارةٍ مضمونها التشكُّر. وهذا كثير إلى الغاية من محزونٍ.
فقد قطعةً من كبده»
والناقد يقف في الموازنة بين الموقفين في شيء من الحيرة، ثم يجزم بأن المقايسة بينهما مقايسة مع الفارق كما يقولون، فإن موقف واصل واضح، ظروفه معينه ونصوصه حاضرة، ولا كذلك موقف ابن زيدون فقد يكون تطرقت إليه المبالغة في الرواية. ولم يذكر الرواة لنا شيئًا من تلك الأقوال التي غابر بينها، ولم يذكروا لنا عددها، وقد تكون قليلة العدد ولكنها المهارةُ التي أديرت بها تخيل للسامع أنها مئات العبارات، فإن السامع لا يكاد يعي وعيا تاما ما سمعه منذ لحظات إلا إن وقف موقف التسجيل والانتباه المتفرغ. على أن احتمال الإعداد والتهيئة فيها قريب، وليس كذلك خطبة واصل التي انفق الرواة وسجّل الشعر أنها كانت وليدة ارتجالٍ وبداهة.
ومهما يكن فإن غايتنا من هذا التقديم المسهب أن نظفر الأدباء الذين لبثوا دهرًا في لهفة دائبة إلى قراءة خطبه واصل محققة، بنصها الكامل فيما يلي:
1 / 133
هذه خطبة واصل بن عطاء التي جانب فيها الراء
الحمد للّه القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوّه، ودنا في عُلوّه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يئوده حفظ ما خَلَق، ولم يخلقه على مثالِ سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعدّله اصطناعا، فأحسن كلَّ شيء خلقه وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدَلَّ على ألوهيَّته، فسبحانه لا معقّب لحكمه، ولا دافع لقضائه تواضع كلُّ شيء لعظمته، وذلَّ كلُّ شيء لسلطانه، ووسِعَ كلَّ شيء فضلهُ، لا يعزُب عنه مثقال حبّةٍ وهو السميع العليم. وأشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا مثيل له (^١)، إلها تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، علا عن صفات كلِّ مخلوق، وتنزّه عن شبه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يعصىَ فيحلم، ويُدعَى فيسمع، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. وأشهد شهادةَ حقّ، وقولَ صدق، بإخلاص نية، وصدق طويةّ (^٢)، أنَّ محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخالصتُهُ وصفيّه، ابتعثه إلى خلقه بالبينات (^٣) والهدى ودين الحق، فبلَّغ مألُكتَهَ (^٤)، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، لا تأخذه في الله لومةُ لائم، ولا يصدُّه عنه زعم زاعم، ماضيًا على سنتّه، موفيًا على قصده، حتى أتاه اليقين. فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى صلاةٍ صلاّها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته،
_________
(^١) لا مثيل له، ساقطة من مفتاح الأفكار والأدبيات والجمهرة. وفي مسالك الأبصار:
«لا شريك له»، تحريف.
(^٢) في مسالك الأبصار وجميع المطبوعات: «وصحة طوية».
(^٣) في المفتاح والأدبيات وجمهرة خطب العرب: «بالبينة».
(^٤) المألكة: الرسالة.
1 / 134
فأحضكم (^١) على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإنَّ تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد. ولا تلهينّكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذّاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاعٌ قليل، ومدة إلى حين، وكلُّ شيء منها يزول.
فكم عاينتم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها، أذاقتهم حلوا، ومزجت لهم سمّا. أين الملوك الذين بنو المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد؛ وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد، قبضتهم بمخلبها (^٢)، وطحنتهم بكلكلها، وعضتهم بأنيابها وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العز ذلَّا (^٣)، ومن الحياة فناءٍ، فسكنوا اللُّحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا تعاينُ (^٤) إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحسُّ منهم من أحد ولا تسمع لهم نبسا. فتزوّدوا عافاكم اللّه فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولى الألباب لعلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظّه وسعادته، وممّن يستمع (^٥) القول فيتّبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فاستمعوا له (^٦) وأنصتوا لعلكم تهتدون (^٧).
أعوذ بالله القوى، من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم. بسم الله الفتاح المنان (^٨). قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (^٩)، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
_________
(^١) في المسالك والمطبوعات: «وأحضكم».
(^٢) في جميع المطبوعات: «بمحملها»، تحريف.
(^٣) في المسالك: «ومن العزة».
(^٤) في المسالك والمطبوعات: «لا ترى»، تحريف.
(^٥) في المسالك: «يسمع».
(^٦) في المسالك: «فاسمعوا له»، وفي المطبوعات: «فأنصتوا له واسمعوا».
(^٧) في المطبوعات: «لعلكم تفلحون».
(^٨) بسم اللّه الفتاح المنان، ساقطة من المسالك ومن جميع المطبوعات.
(^٩) ما بعده إلى تمام السورة ساقط من المسالك.
1 / 135
نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، وبالآيات والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم. وأدخلنا وإياكم جنات النعيم (^١). أقول ما به أعظكم، وأستعتب اللّه لي ولكم.
_________
(^١) إلى هنا ينتهى النص في جميع المطبوعات.
1 / 136