Разногласия уммы в поклонении и доктрина Ахл ас-Сунна ва-ль-Джамаа
خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة
Исследователь
عثمان جمعة خيرية
Издатель
دار الفاروق
Год публикации
1410 AH
Место издания
الطائف
خِلافُ الأُمَّةِ في العِبَادَاتِ
وَمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
لِشَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
أَبِي العَبَّاسِ، تَقِيِّ الدِّينِ، أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ
المُتَوَفَّى سَنَةَ (٧٢٨) هـ
قَدَّمَ لَهَا وَعَلَّقَ عَلَيْهَا:
عثمان جمعة ضميرية
دار الفاروق
ص.ب: ٣١٩ - هاتف: ٧٤٦٦٣٣٢
الطائف - المملكة العربية السعودية
الطَّبْعَةُ الأُولَى
١٤١٠ هـ / ١٩٩٠ م
1
خلاف الأمة في العبادات
2
بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
3
4
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، والصلاة والسلام التامَّان الأكملان على رسوله المجتبى ونبيه المصطفى، وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى، وبعد:
فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات السماوية، فقد أكمل الله تعالى بها الدين وأتم النعمة على هذه البشرية فقال:
﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإِسلام ديناً ﴾ [سورة المائدة، الآية: ٣].
ورسالةً هذا شأنها لابدَّ أن تكون وافية بمتطلبات الحياة البشرية جميعها، وأن تكون ناظمة لكل العلاقات، علاقة المرء بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمن حوله، ولا بد أن تكون رسالة كاملة، إذ ليس بعدها رسالة، وليس بعد رسولها رسول:
﴿ ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكنْ رسولَ الله وخاتم النبيين ﴾ [سورة الأحزاب، الآية: ٤٠].
5
- ١ -
● ومن الأهمية البالغة أن يتعرف المسلم على هذا الإسلام الذي رضيه الله تعالى لنا ديناً، يتعرف عليه على أنه دين شامل كامل، لم يترك جانباً من جوانب حياة الإنسان إلا وقد نظّمه، ووضع له أحكاماً خاصة، فالشريعة الإسلامية تحدِّد للمكلفين أحكاماً في أقوالهم وأفعالهم، ولا يَنِّ عنها شيء.
● وهذه النظرة الكلية الشاملة للإسلام تجعلنا نقف على أربعة شُعَبٍ تكوِّن مجموع هذا الدين الذي أنزله الله تعالى: عقيدةً، وعبادة، وشريعة، ومنهجاً أخلاقياً.
● فالعقيدة تتضمن الحقائق الكبرى التي دعا إليها القرآن الكريم دعوة ملحّة متكررة بطرق شتى، وكذلك كان عمل الرسول ﷺ، ولا سيما في المرحلة المكية من الدعوة، موجهاً إلى أسس العقيدة والإيمان بها. وحتى عندما بدأت المرحلة المدنية بما فيها من تشريع وأحكام كانت العقيدة محوراً لهذه الأحكام ومنطلقاً لها.
وتقوم هذه العقيدة على أساس شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" وما يتفرع عنها من أركان ومقتضيات، كالإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى، وكالنظرة الكلية لهذا الوجود كله، وأنه من خلق الله وتدبيره.
ولهذه العقيدة تأثير كبير في الحياة البشرية، الفردية والجماعية، وهي تتخلل جميع سور القرآن الكريم بلا استثناء، وتتخلل جميع أحكام الإسلام الأخلاقية والتشريعية، فإننا لا نستطيع - مثلاً - أن نعزل قواعد النظام الاجتماعي التي أرساها القرآن الكريم عن هذا العنصر الإيماني، ولا نستطيع أن نعزل قواعد النظام الاقتصادي أو السياسي أو غيرهما من النظم الإسلامية عن هذه العقيدة، وكذلك نجد الأحكام الأخلاقية تتخلل جميع الأحكام الفقهية، كما أن كل جانب من هذه الجوانب التي ألمحنا إليها مرتبط بسائر الجوانب والتشريعات، فهي بمجموعها تكوِّن كُلَّا مُنَسَّقاً متكاملاً مترابطاً
6
والعقيدة هي اللَّبنة الأولى الأساسية في بناء الإِسلام، وهي أساس قبول العمل عند الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى عن الكفار: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾. [سورة الفرقان، الآية: ٢٣].
وعن هذه العقيدة تتفرع بقية الشعب الآتية، وعليها ترتكز وتقوم، فإذا انفصلت عنها أو لم ترتكز عليها كانت هباءً وأهواءً، وكان العمل ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾. [سورة النور، الآية: ٣٩].
وأما العبادة؛ فقد جعلها الله تعالى غاية الوجود الإِنساني: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات، الآية: ٥٦]، كما جعلها تعبيراً حياً عن العقيدة التي تستقرّ في قلب المسلم، وتنقلها من حيز الفكر المجرد إلى حيز القلب الذي يحس ويشعر، وإلى مجال العمل الصالح، فيجعلها بذلك قوة دافعة، لها حرارتها ونورها وأثرها في الحياة، ومن هنا كان ذلك الاقتران في القرآن الكريم بين الإِيمان والعمل الصالح: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
والعبادة تذكِّر الإِنسان بموقعه الحقيقي في هذا الوجود، وترقّي الجوانب النفسية والروحية عنده، وهي غير منفصلة عن أي جانب من جوانب الحياة، وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: ((فوالله إني لأخشاكم الله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).(١)
وهذا يعطينا مفهوماً صحيحاً عن العبادة، فهي ليست محصورة في الشعائر التعبدية، التي هي أركان الإِسلام، بل إنها تشمل جميع جوانب الحياة البشرية إذا ما التزم فيها المسلم بما شرع الله تعالى، فهي - كما يقول ابن تيمية رحمه الله -: ((اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الخير والبر والطاعة، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. فالصلاة والزكاة والحج، والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، والجهاد والعمل الحلال، وطلب العلم والذكر والدعاء..)) الخ ،
(١) أخرجه البخاري في النكاح: (١٠٤/٩)، ومسلم أيضاً في النكاح: (١٠٢٠/٢).
7
كل هذه الجوانب أبواب وفصول من كتاب العبادة الكبير، التي خلقنا الله تعالى لأجلها.
• وليس الإِسلام محصوراً في هاتين الشعبتين فحسب، بل هو شريعة تنظم حياة الإِنسان، ثم تنطلق لتضع أحكاماً لتنظيم الحياة الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد. كما تنظم الحياة الاقتصادية للإِنسان ببيان ما يحلُّ وما يحرم من طرائق الكسب والإِنفاق. وتمتد لتشمل تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى، في حال السلم والحرب، ضمن قواعد الحق والعدالة والخير.
ولذلك نجد في فقهنا الإِسلامي ما يسمى اليوم بأحكام الأسرة والمعاملات المالية والنظم الجنائية والدستورية والإدارية والاقتصادية والعلاقات الدولية الخاصة والعامة. وغير ذلك مما يعرفه علماء اليوم من هذه التنظيمات والمبادىء.
وأما الأخلاق فهي تحدد قواعد السلوك في الحياة الفردية فيما بين الإِنسان ونفسه، وفي الحياة الأسرية فيما بينه وبين زوجه وأولاده..، وفي الحياة الاجتماعية عامة فيما بينه وبين الناس على اختلاف نوعية علاقتهم، كما تشمل النفسية المثالية التي يسعى الإِسلام لتحقيقها وتزكيتها، فقد قال الله تعالى: ﴿ونفسٍ وما سوَّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكًّاها وقد خاب من دسَّاها﴾. [سورة الشمس، الآية: ٧-١٠].
وفي كتاب الله تعالى وفي سنة النبي ﷺ، الذي بعثه الله تعالى ليتمم مكارم الأخلاق ومدحه بعظمة الخلق حيث قال: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ [سورة القلم، الآية: ٤]. في الكتاب والسنة بيانٌ للمنهج الأخلاقي الأمثل وحثّ على مكارم الأخلاق وتحذيرٌ من سفاسفها، ثم إقامةٌ لمعالم النظام الأخلاقي وربطه بالعقيدة والعبادة.
وبعد - أيها القارىء الكريم - فلا تحسبنَّ أن كل جانب من تلك الجوانب، يمكن أن نفصله عن سائر الجوانب، فإننا لم نقصد إلى ذلك، ولكنا فصلناها من أجل البيان والتعرف على كلٍ منها فحسب، وإلا فهي كلٌّ متكامل مترابط، فالإِسلام: عقيدة وعبادة وشريعة (منهج حياة) وأخلاق.
8
وإننا نجد دليل هذه الفكرة ومصداقها في كتاب الله تعالى، في كثير من المواضع منه، حيث يذكر الله تعالى هذه الجوانب في سياق واحد تترابط فيه تلك الجوانب وتتمركز حول العقيدة والإيمان الذي تنبثق منه سائر الجوانب والأركان، فقد قال الله تعالى:
﴿ ليس البرَّ أن تولّوا وجوهكم قِبَلَ المشرق والمغربِ ولكنَّ البرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتابِ والنبيِّين، وآتى المال على حبِّه ذوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيلِ والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفونَ بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ﴾. [سورة البقرة، الآية: ١٧٧]
وبعد هذه النظرة العامة للإسلام التي ألمحنا فيها إلى الجوانب الأساسية في بناء هذا الدين، نقف فقرتين اثنتين على مفهوم العبادة بخاصة، نتبين فيهما: المفهومَ الصحيح للعبادة، لئلا نقع في الخطأ والقصور في نظرتنا لها، كما نتبين الحكمة من أداء هذه العبادة وثمراتها، ليكون ذلك مدخلاً وتمهيداً لرسالة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن ((خلاف الأمة في العبادات)). ثم نقف فقرات أخرى عن كيفية تلقي الصحابة لهذه العبادة، ونشأة الخلاف في بعض أحكامها وأنواعها، منذ الصدر الأول، وما ينبغي أن يكون عليه موقف المسلم من هذا الخلاف في أنواع العبادات. وبالله التوفيق، ومنه نستمد العون .
9
- ٢ -
● عندما ينظر المرء حوله يجد كلَّ شيء في هذا الكون قد خلقه الله تعالى لحكمة كبرى وغاية يسعى إليها، وإلا كان وجوده عبئاً، وقد تنزه الله سبحانه وتعالى عن العبث والباطل، فقال في كتابه الكريم: ﴿وما خلقنا السمواتِ والأرض وما بينهما باطلاً﴾. [سورة ص، الآية ٢٧]. والمؤمن يناجي ربه تعالى قائلاً عندما يتفكر في خلق السموات والأرض: ﴿ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار﴾. [سورة آل عمران، الآية ١٩١].
● والإنسان ليس بِدْعاً بين هذه المخلوقات، فلابد أن يحدد الغاية التي أُوجد من أجلها، وهو يسعى لها، كي تستقيم حياته من خلالها ويعرف سرَّ وجوده: ﴿أفمن يمشي مُكِبّاً على وجهه أَهدى أم من يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم﴾. [سورة الملك، الآية ٢٢].
﴿أفحسِبْتُمْ أَنما خلقناكم عَبَثَاً وأنكم إلينا لا تُرْجعون﴾. [سورة المؤمنون، الآية ١١٥].
* وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنه أخذ العهد على بني آدم أن يعترفوا له بالربوبية ليخضعوا له بالعبادة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدمَ من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ برّكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾. [سورة الأعراف، الآية ١٧٢].
وكانت الكلمة التي تتكرر على لسان كل رسولٍ لقومه عندما يدعوهم، هي الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده: ﴿يا قوم اعبدوا الله مالكم من إلهٍ غيرُهُ﴾. [سورة الأعراف، الآية ٥٩].
وغدت العبادة غاية الوجود الإنساني كله، بل إن الجن كذلك غايتهم هي عبادة الله تعالى: ﴿وما خلقتُ الجنَّ والإِنسَ إلا ليعبدونِ، ما أريد منهم من
10
رزقٍ وما أريد أن يُطْعِمُونِ. إن الله هو الرزّاق ذو القوةِ المتينَ﴾. [سورة الذاريات، الآيات : ٥٦-٥٨] .
وبهذا النفي في أول الآية الكريمة والاستثناءِ في آخرها يحصرُ الله تعالى مهمة الإِنس والجن ويقصرُها على وظيفة واحدة ومسؤولية واحدة هي عبادة الله تعالى وحده ، فليس لهم وراء ذلك وظيفة أو غاية ، وما ينبغي أن يكون !
فكيف يستطيع الإنسان أن يكون دائماً في عبادة الله تعالى ، فلا تنقضي لحظة من لحظات حياته - بعد التكليف - إلا وهو في عبادة ؟ وكيف يستطيع أن يقوم بهذا التكليف الرباني ؟
* هنا نجد أنفسنا أمام فهم صحيح للعبادة كما أرادها الله تعالى ، لا تقتصر على ركعات خاشعة يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، ولا على أيام من العام يصومها المسلم طاعة لله سبحانه ، ولا على جزء من المال يدفعه زكاة يطهّر به نفسه وماله ، ولا على حج البيت الحرام عند الاستطاعة . فإن هذه العبادات كلَّها لا تستغرق من حياة الإِنسان إلا جزءاً يسيراً ، فهل يترك سائر أيام حياته وساعاتها دون عبادة ، فيخالف - عندئذ - أمر الله تعالى، وهو سبحانه لم يخلقه إلا للعبادة ؟
إن المسلم يستطيع أن يجعل حياته كلها في الساعات الأربع والعشرين في اليوم والليلة عبادةٌ لله تعالى وحده ، إذ أن الإِسلام قد أسبغ على جميع أعمال الإِنسان صفة العبادة إذا قصد بهذه الأعمال وجه الله ومرضاته ، وقام بها على الوجه المشروع الموافق للسنة ، وكانت في سبيل تحقيق أهدافها المقصودة المشروعة . فالزارع والصانع والتاجر ، والطبيب والمهندس والعامل ، والموظف ، والمعلم والتلميذ .. وغيرهم من أصحاب الأعمال تعتبر أعمالهم عبادة إذا قصد بها كلّ منهم نَفْعَ عباد الله ، والاستغناء عن الحاجة إلى الناس ، وإعالة العيال ، تحقيقاً لأمر الله سبحانه وتعالى وخضوعاً له ، والتزاماً وتحقيقاً لمقاصد الشريعة التي أنزلها الله تعالى لمصالح الناس ، وليقوموا جميعاً بالحق والقسط .
11
* والقرآن الكريم، كتاب الله الخالد، لم يقصر وصف الصلاح - عندما أمرنا بالعمل الصالح - على العبادات المخصوصة وهي أركان الإسلام وشعائره ومبانيه الأساسية، بل جعله شاملاً لأعمال أخرى، كقوله تعالى:
﴿ذلك بأنهم لا يُصيبهم ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سبيل الله ولا يطؤون مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفارَ ولا ينالونَ من عدوٍّ نَيْلاً إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالح، إن الله لا يُضِيْعُ أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقةً صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كُتِبَ لهم لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ ما كانوا يعملونَ﴾ [سورة التوبة، الآيتان: ١٢٠-١٢١] ... والآيات في ذلك كثيرة تعزّ على الحصر.
وفي الحديث الشريف يعدِّد النبي ﷺ أنواعاً من الطاعات، ويبين أجرها فيقول: ((يصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، فكلُّ تسبيحةٍ صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)).(١)
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)).(٢)
وقال أيضاً: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كلَّ يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)).(٣)
وقال: ((الإِيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبةً: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإِيمان)).(٤)
(١) أخرجه مسلم برقم (٧٢٠): (٤٩٩/١).
(٢) أخرجه مسلم برقم (٢٦٢٦): (٢٠٢٦/٤).
(٣) أخرجه البخاري: ٢٢٦/٥ طبعة بولاق، ومسلم برقم (١٠٠٩): (٦٩٩/٢) واللفظ له.
(٤) أخرجه البخاري: (٤٨/١، ٤٩) ومسلم برقم (٣٥): (٦٣/١).
12
وكل هذه الأعمال أبواب من الخير، ينال المؤمن عليها الأجر فهي صدقات، والصدقة عبادة يتقرب بها المرء إلى الله تعالى. وأكثر من هذا وأدلُّ قوله عليه الصلاة والسلام: «وفي بُضْع أحدكم صدقة - أي في جماعه لزوجته - قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)).(١)
* وبعد، فما أصدق وما أجمل ما يقوله شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتحدث عن العبادة وفروعها حيث يقول:
«العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبِرُّ الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإِحسانُ للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك ... كله من العبادة».
وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإِنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه، والرضى بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه ... هي من العبادة لله.
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمَرْضِيَّةُ له، التي خلق لها الخلق فقال: ((وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون)).(٢)
* ويقول المفكر المسلم محمد أسد في كتابه: ((الإِسلام على مفترق الطرق)): «يختلف إداراك العبادة في الإِسلام عمَّا هو في كل دين آخر .. إن العبادة في الإِسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص، كالصلاة والصيام مثلاً، ولكنها تتناول ((كلَّ)) حياة الإِنسان العملية أيضاً. وإذا كانت الغاية من
(١) قطعة من حديث رواه الإمام مسلم برقم (١٠٠٦): (٦٩٧/٢ - ٦٩٨).
(٢) انظر: ((العبودية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (٣٨-٣٩)، بتحقيق الأستاذ الفاضل عبدالرحمن الباني.
13
حياتنا - على العموم - «عبادة الله تعالى» فيلزمنا حينئذ أن ننظر - ضرورةً - إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها على أنها تَبعة أدبية متعددة النواحي.
وهكذا يجب أن نأتي أعمالنا كلها على أنها عبادات، أي: أن نأتيها بوعي وعلى أنها تؤلف جزءاً من ذلك المنهاج العالمي الذي أبدعه الله». (١)
* وهكذا - أيها الأخ المسلم - تبين لنا أن هناك مفهوماً خاطئاً عند بعض الناس عن العبادة، حيث يجعلونها ذات مدلول ضيق، وفي حيز محدود. وأن هناك مفهوماً أرحب وأوسع أفقاً من المفهوم الأول، وهذا هو المفهوم الصحيح للعبادة ولغاية الوجود الإنساني.
فحذارِ حذارِ أن تتمسك بمفهوم جزئي قاصر ثم تترك المفهوم الصحيح الشامل الكامل للعبادة، فإن العبادة كلٌّ لا يتجزأ، والإسلام كلٌّ لا يتجزأ، والكفر ببعضه كالكفر به كله!
وهنا قد يتساءل المرء فيقول: لم شرع الله تعالى لنا هذه العبادات بأنواعها، وهو الغني عن عباده وعن عبادتهم؟
ونحاول أن نتلمس الإجابة على هذا التساؤل بإلماعات سريعة إلى بعض الجوانب من حكمة العبادة، كما نلمحها من خلال النصوص الشرعية :
(١) «الإسلام على مفترق الطرق» لمحمد أسد، ترجمة عمر فروخ ص (٢٣).
14
- ٣ -
● لقد أنعم الله تعالى على هذا الإنسان عندما خلقه وزوَّده بكثير من المواهب والقدرات، التي تميزه عن سائر المخلوقات.
فقد كرمه الله تعالى وجعله مفضَّلًا على كثير من المخلوقات: ﴿ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً﴾. [سورة الإسراء، الآية ٧٠]، فقد ميزه الله تعالى بالعقل والإرادة والاختيار، فكان أهلاً لحمل أمانة التكليف والقيام بأعباء الخلافة في هذه الأرض:
﴿إِنَّا عرضنا الأمانة على السمواتِ والأرض والجبال فَأَبَيْنَ أن يحملنَها وأَشْفُقْنَ منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً﴾. [سورة الأحزاب، الآية ٧٢].
﴿وإذْ قال ربُّك للملائكة: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، قالوا: أتجعلُ فيها من يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماءَ ونحن نسبِّحُ بحمدِكَ ونُقَدِّسُ لك؟ قال: إني أعلمُ ما لا تعلمونَ﴾. [سورة البقرة، الآية ٣٠].
وبمقدار ما يعطى الإنسان من مواهب وملكات بمقدار ما تَعْظُم مسؤوليته، فهذا الإنسان مكلّف ومسؤول، وقمة هذا التكليف والمسؤولية هي: العبادة.
* وليست هذه العبادة المفروضة، أياً كان لونها، سبباً لنفع الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة الطائعين المتقين، ولا تضره معصية العصاة الفاجرين. قال الله تعالى:
﴿إن تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد﴾. [سورة إبراهيم، الآية ٨].
وفي الحديث القدسي فيما يرويه الرسول ﷺ عن ربه تبارك وتعالى: ((يا عبادي: إنكم لم تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا
15
عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)).
يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)) .(١)
ولذلك كانت هذه العبادة حقاً لله سبحانه وتعالى على عباده، تحقيقاً لمقتضى عبوديتهم له سبحانه، فهي حق الربوبية على العبودية، حق المنعم المتفضّل على من يتمتع بهذه النعم والأرزاق:
﴿يا أيها الناسُ اعبدوا ربَّكُمُ الذي خلقكم والذين مِنْ قبلكم لعلكم تتقونَ، الذي جعلَ لكمُ الأرضَ فراشاً والسماءَ بناءً وأنزلَ من السماءِ ماءً فأخرجَ به من الثمراتِ رزقاً لكم. فلا تجعلُوا لله أنداداً وأنتم تعلمونَ﴾ [سورة البقرة، الآيتان: ٢١-٢٢]
ويوضح هذا ويؤكده حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رِدْفَ النبي ﷺ، ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرَّحْل. فقال: ((يا معاذ بن جبل!)) قلت: لبيك رسولَ الله وسَعْديك. ثم سار ساعة ثم قال: ((يا معاذ بن جبل!)) قلت: لبيك رسول الله وسعديك ... قال: ((هل تدري ما حق الله على العباد؟))
قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)) ثم سار ساعة. ثم قال: ((يا معاذ بن جبل!)) قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: ((هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟))
قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((ألّا يعذبهم)).
وفي رواية ((وحق العباد على الله عز وجل أنْ لا يعذّب من لا يشرك به شيئاً)).(٢)
(١) قطعة من حديث رواه مسلم عن أبي ذر في كتاب البر والصلة ... (١٩٩٤/٤-١٩٩٥).
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري في الجهاد: (٣٩٧/١٠) ومسلم في الإيمان: (٥٨/١).
16
وفي العبادة ابتلاء واختبار لهذا الإنسان، يتميز فيه المؤمن الطائع من الكافر، وفيه تقوم الحجة على الكافر الذي جحد واستكبر عن عبادة الله تعالى، أو غطّى على عقله وعلّقة عن العمل والفكر، وأقفل قلبه عن الهدى والنور، فرفض عبادة الله تعالى ووقع في عبودية غير الله، ويشير الله تعالى إلى هذا الابتلاء فيقول:
((الذي خلق الموت والحياة لِيُبْلُوَكُمْ أَيُّكم أحسنُ عملاً، وهو العزيزُ الغفور)). [سورة الملك، الآية الثانية].
وانطلاقاً من هذه الفكرة لم تكن العبادة مجرد وسيلة لترقية النفس وتهذيبها وتزكيتها فحسب، بل هي مطلوبة لذاتها، طلب الغايات والمقاصد، لا طلب الأدوات والوسائل. فهي في الدرجة الأولى امتثال لأمر الله تعالى، ووفاء بحقه سبحانه، وهي مطلوبة لذاتها قصداً قبل أي شيء آخر في هذه الحياة.
وفي العبادة تحقيق الإِيمان المؤمن وتعبير عنه، فهي التي تجعل العقيدة نابضة، والإِيمان حياً في النفوس، فيحول هذا الإِيمان إلى قوة دافعة لها أثرها في حياة الإنسان.
ولن يشعر الإنسان بعبوديته لله سبحانه وتعالى ما لم يتجه إليه بالعبادة والخضوع، فهي تعبير عن خضوعه لله تعالى، وهي بذلك موضع فخر واعتزاز، لأنها تحرِّر الإِنسان من رقِّ العبوديات الأخرى، فتجعله - عندئذ - يشعر بالحرية الحقيقية الكاملة، لأنه عرف أن له رباً واحداً، فهو يتجه إليه بالعبادة ويخضع له ويخلص، وبذلك يتحرر من كل عبودية أخرى، يتحرر من عبودية الشيطان وعبودية النفس أو الجاه أو المال أو القيم الاجتماعية والسياسية، كما يتحرر من عبودية الطواغيت بكل معانيها وأشكالها. فإن الإِنسان - بطبيعته وفطرته - لابد أن يكون خاضعاً عابداً، فإن لم يخضع لله خضع لغير الله. ففي العبودية لله سبحانه وتعالى تمام الحرية، وفي التحرر من هذه العبودية تمام العبودية والخنوع.
والمسلم يجد في عبادته لله تعالى غذاء لروحه ونفسه، ويجد سكينة وأنساً، يجد فيها انشراحاً لصدره وتخفيفاً عن كاهله، ويجد فيها زاداً لحياته على طريق
17
الرحلة هذه، ويجد راحة يستمتع بها، وواحة يلجأ إليها، ويتنسم الرضى في ظلالها.
ولذلك كان رسول الله ﷺ إذا حَزَبَهُ أمرٌ صلَّى. (١)، وكان يقول لبلال إذا حان وقت الصلاة: يا بلال! أقم الصلاة أرِحْنَا بها. (٢)
* والعبادة تذكِّر الإِنسان بموقعه الحقيقي في هذا الوجود وترقِّي الجوانب النفسية والخلقية عنده، وتطهِّر نفسه وتزكيها. وهذه التزكية والصلاح للنفس هما ثمرة العبادة الحقة الصحيحة الخالصة لله سبحانه وتعالى، فما لم تترك العبادة أثرها في الإِنسان: فإنه لا يفيد من عبادته إلا حركات مجرّدة وعادة مكرورة لا تحظى بالقبول والرضى من الله سبحانه، فربَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنَّصَب.
وهذا الأثر للعبادة يظهر في الدنيا قبل الآخرة، فإن تزكية النفس وتطهيرها والبعد عن الفحشاء والمنكر، والتقوى والمراقبة، وشهود المنافع... كل هذا نجده في الدنيا أثراً من آثار العبادة، وبذلك تترابط الدنيا مع الآخرة، وتجمع بينهما عبادة المرء لربه تبارك وتعالى. (٣)
* إذا أدركنا بعض الحِكْم والغايات للعبادة، بهذه الإِشارات السريعة الموجزة، فلنتجه إليه سبحانه وتعالى وحده بعبادتنا الخالصة الخاشعة، فذلك هو شرط النجاة عند الله تعالى في الآخرة: ﴿فَمَنْ كان يرجو لقاءَ ربِّه فليعملْ عملًا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً﴾. [سورة الكهف، الآية: ١١٠].
وليكنْ قيامك بالعبادة أداء لحق الله تعالى، حتى وإن غابت حكمة تشريعها عنك، أو لم تدركها بعقلك. فإننا نؤمن بأن وراء كل حكم حكمةً ومصلحةً
(١) أخرجه أبو داود في الصلاة: (٢/٩٤)، وأحمد في ((المسند)): (٥/٣٨٨) قال المنذري: وروي مرسلاً.
(٢) أخرجه أبو داود في الأدب: (٧/٢٧٧)، والإِمام أحمد في ((المسند)): (٥/٣٦٤)، والطبراني مطولاً في قصة، ((مجمع الزوائد)): (١/١٤٥).
(٣) مراجع للاستزادة والتفصيل: ((العبودية)) لابن تيمية، ((في ظلال القرآن)) لسيد قطب، ((العبادة في الإِسلام)) للقرضاوي، ((نظام الإِسلام - العقيدة والعبادة)) لمحمد المبارك، ((الأركان الأربعة)) للندوي، ((مفاهيم ينبغي أن تصحح)) للأستاذ محمد قطب.
18
لنا ، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
والواجب يقتضينا أن نتلقى أوامر الله تعالى وأوامر رسوله ﷺ بالتسليم المطلق دون أن نحاكمها إلى شيء من مقتضيات العقول والآراء الفاسدة، متأشّين في ذلك بالجيل الأول والسلف الصالح، رحمهم الله تعالى، وهذا يحتاج إلى شيء من الإيضاح والبيان:
- ٤ -
* فقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يتلقون أحكام الشرع من النبي ﷺ تلقياً مباشراً، ويستنبطون من قوله وفعله حكماً من الوجوب وغيره، ثم يخبرون بذلك الحكم، ثم تلقى التابعون من الصحابة كذلك، ضمن منهج دقيق للاستنباط والتلقي.
ولم يكن الفقه في عهد النبي ﷺ علماً مستقلاً مدوَّناً، ولم يكن البحث في الحكم يومئذ مثل البحث من الفقهاء المتأخرين، حيث يُبيّنون - بأقصى جهدهم -: الأركانَ، والشروط، والآداب، كلَّ شيء متميزاً عن الآخر بدليله، ويفرضون الصور ويتكلمون عليها، ويحصرون ما يقبل الحصر، إلى غير ذلك من صنائعهم.
أما رسول الله ﷺ فكان يتوضأ - مثلاً - فيرى الصحابةُ وضوءه، فيأخذون به من غير أن يبين أن هذا ركن وذلك أدب.. وكان يصلي، فيرون صلاته، فيصلون كما رأوه يصلي. ولم يبين أن فرائض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة، حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد، إلا ما شاء الله، وما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء، ولذلك قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما: ((ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله ﷺ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة، حتى قُبِض، كلّهن في القرآن..)).
● ورأى كلُّ صحابي ما يسَّر الله له من عبادته ﷺ وفتاواه وأقضيته، فحفظها وعقلها، وعرف لكل شيء وجهاً من قِبلَ القرائن التي احتفَّت به؛
19
فحمل بعضها على الإباحة وبعضها على النسخ، لأمارات وقرائن كانت كافية عنده. ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثّلَج من غير التفات إلى طرق الاستدلال. فانقضى عصره الكريم - ﷺ - وهم على ذلك، ثم إنهم تفرقوا في البلاد وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع، ودارت المسائل، فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسبما حفظه أو استنبط، وإن لم يجد في ذلك ما يصلح للجواب: اجتهد برأيه، وعرف العلة التي أدار عليها الرسول ﷺ الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهداً في موافقة غرضه عليه الصلاة والسلام، فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب، منها:
أ - أن صحابياً سمع حكماً في قضية أو فتوى، ولم يسمعه الآخر فاجتهد برأيه في ذلك. وهذا يجمع وجوهاً؛ كأن يقع اجتهاده موافقاً للحديث، وأن يقع بين الصحابة مناظرة في مسألة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن، فيرجع عن اجتهاده إلى الحديث المروي، وقد يبلغه الحديث لكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن فلا يترك اجتهاده، وقد لا يصل إليه الحديث أصلاً.
ب - ومن تلك الضروب: أن يروا رسول الله ﷺ قد فعل فعلاً، فحمله بعضهم على القُرْبَة، وبعضهم على الإباحة.
ج - ومنها اختلاف الوهم في نقل صفة عبادة، كما في قولهم في صفة حج النبي ﷺ، فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعاً، وبعضهم إلى أنه كان قارناً، وبعضهم إلى أنه كان مفرداً.
د - ومنها: اختلاف السهو والنسيان، واختلاف الضبط لنص الحديث. كحديثي تعذيب الميت ببكاء أهله.
هـ - ومنها اختلافهم في علة الحكم، ومثاله القيام للجنازة، هل هو لتعظيم
(١) طَرَد الحكم: جعله عاماً. وطرّده: مبالغة في طرده.
20