قال: ألم تر إلى الطفل إذا فقد أمه بكى وتحير في الوجوه وأخذته الغربة، لأنه لا يجد أمه. فلا ينام ولا ينيم. حتى إذا وجد ريح الأم تهلل وصرخ!
قال القائل: لقد جئت (يا شيخ) بمثل عظيم! فما هذا؟
قال: ويحك، إن العظيم في جلاله لما قرب هذا العبد، خرجت له
الدولة من مشيئته على طريق المحبة والرأفة والتحنن عليه. فلما بلغ هذا المحل أفاق من السكر، وقد انطمست المشيئة عنه بسكره. وفيه بقية من السكر. وهو قلب غريب في مفاوز الحيرة، منفرد في تلك الفردية. و(فجأة) وجد ريح الرأفة (الإلهية) في قلبه، فصرخ إلى ولي الرأفة. فجاءت الرأفة فاحتملته. وبلغته الرحمة، فأخذته فأذته إلى مولاه. فأوصله إلى نفسه بلا مشيئة. فإن هذه أقوى المشيئات وأعظمها. ويستحيل أن تسقط عن النفس إلا من هذا الوجه، الذي لطف الله تعالى بعبده فيه.
(الفصل الخامس والعشرون) (خاتم الأولياء)
قال (له) القائل: صف لنا هذا المجذوب، الذي وجبت له الإمامة على الأولياء، وإن لواء الولاية بيده، وأن الأولياء كلهم محتاجون إليه في الشفاعة كما يحتاج الأنبياء إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قال: (أما) صفته فهو الذي أعلمتك.
قال: فبم تقدم الأولياء فاحتاجوا إليه؟
قال: بأنه أعطى ختم الولاية: فبالختم تقدمهم، فصار حجة الله على أوليائه. وقد ذكرت في أول الكتاب سبب الختم: (وهو) أن النبوة أعطيت الأنبياء، عليهم السلام، ولم يعطوا الختم. فلم تخل تلك الحظوظ من هنات النفس ومشاركتها. وأعطي نبينا وختمت له نبوته. كالعهد الذي يكتب ثم يختم، فلا يصل أحد إلى أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، وقد وصفت شأنه فيما تقدم.
وكذلك هذا الولي يسير به (الله تعالى) على طريق محمد صلى الله عليه وسلم بنبوته، مختوما بختم الله. فكما كان محمد صلى الله عليه وسلم حجة على الأنبياء، فكذلك يصير هذا الولي حجة على الأولياء: بأن يقول (الله تعالى) لهم: معاشر الأولياء، أعطيتكم ولايتي فلم تصونوها من مشاركة النفس. وهذا أضعفكم وأقلكم عمرا قد أتى بجميع الولاية صدقا، فلم يجعل للنفس فيها نصيبا ولا تلبيسا.
Страница 77