وما كاد يتم محسد حديثه حتى زفر المتنبي، وقال في كبر وأنفة: هؤلاء يا بني لا يفهمون معنى الشعر، فإن من أولى خصائصه وأكبر ما يدفع فيه إلى اللذة والاستمتاع، أن يكون خفيا تضطرب في إدراكه العقول.
واستمر الركب يقطع البيداء، يقيل وقت الظهيرة، ويعرس في أخريات الليل، حتى رأى العبيد نخيلات عن بعد فصاحوا في جذل وابتهاج: لقد بلغنا منابت العشب! سنرى بعد قليل الزرع والماء! وسنجد بعد قليل نخلا نلجأ إلى ظلها الظليل! ولقد كانوا في تفاؤلهم صادقين، فقد بلغوا ما يعرف «بنخل» ولكنهم ما كادوا يصلون إليه ويحمدون عاقبة السرى، حتى وجدوا عنده شرذمة من لصوص الأعراب تسقي خيلها، وما إن رأتهم حتى وثبت عليهم تبغي انتهاب ما معهم من خيل وإبل وغنائم، فقاتلهم المتنبي وعبيده وأثخنوا فيهم، فسقط من سقط منهم، وفر الباقون يلتمسون النجاة. وفرح العبيد بانتصارهم، واندفعوا إلى الماء يشربون ويسقون دوابهم ويغمسون رءوسهم فيه حبا له وشوقا إليه، ثم أخذوا يرقصون ويغنون على طريقتهم في الرقص والغناء.
ونزل أبو الطيب بنخل ضيفا على أبي النجم ملاعب الأسنة، وهو كبير الأعراب في هذه الحلة، فأحسن ضيافته، وأكرم مثواه. وبعد أيام نال فيها العبيد شيئا من الراحة أمر المتنبي بالمسير وشد الترحال، فعادت الخيل إلى خبها، والإبل إلى وخيدها، وكان السير مملا مضنيا، والطريق وعرا موحشا، لا ترى فيه العيون إلا هياكل بشرية لقوم قتلهم ظمأ الصحراء، أو إبل قضى عليها طول السفار.
ومضت هكذا أيام وأيام نال فيها طول الطريق وقلة الزاد من العبيد، فضويت أجسامهم، ونفد صبرهم، وشكست أخلاقهم وبدت فيهم روح السخط والتمرد، وكان يسيطر عليهم ويتزعم جماعتهم عبدان، هما : مجاهد وشعلان، وكانا أقواهم نفسا، وأشدهم عزما، وأمضاهم ذكاء وتدبيرا، وأمهرهم لعبا بسيف أو تحكما في جواد.
وأحسن المتنبي بوادر هذا العصيان، فأمر ابنه ومسعودا أن يراقبا العبيد عندما يخلون إلى أنفسهم.
واجتمع العبيد في معرسهم ذات ليلة، وأخذوا يشكون ويتذمرون، وكان مسعود مختفيا خلف بعير يسمع ولا تراه عين، فقال مجاهد: إن هذا المتنبي الأخرق يسوقنا إلى الدمار. فأجابه شعلان: لقد ضل الطريق ما في ذلك شك، ولن تكون نهايتنا إلا مثل تلك العظام التي نراها في الطريق، والتي كان لها لحوم فأكلتها الصحراء، والعجيب أنني كلما نصحت لعبده مسعود أن ننيخ الإبل للراحة، وأن نبحث عن دليل يرشدنا إلى مكان ينقذنا من هذا التيه، ونجد فيه ما تقتات به الدواب، عبس في وجهي وقال في تيه وصلف: أتظن أنك أعلم من سيدي بمجاهل الصحراء ومناهلها؟ إنك لو نبست بشيء من هذا الكلام أمامه لجعلك طعاما لسيفه. فزمجر العبيد في سخط واستنكار وهمسوا: ماذا نفعل إذا ونحن أمام موت محقق؟ فقال مجاهد: يجب أن نثور ونحن والحمد لله جمع يبلغ الخمسة والثلاثين، ولا نعجز عن أن نقتله ونقتل ابنه وعبده. فقال أحد العبيد في صوت خافت: ثم نأخذ جميع ما جمعه من أموال مصر وكنوزها، فقال مجاهد: وماذا تنفع الكنوز في هذه الصحراء الجرداء الماحلة؟ فأجاب شعلان: إني أعرف طريق العودة إلى نخل. - إذا تكون الثورة غدا حينما يأمرنا هذا المخاطر المجنون بالرحيل.
وسكت القوم وهومت رءوسهم للنوم، وانطلق مسعود إلى سيده فنفض إليه جملة الخبر، فأطرق المتنبي طويلا ثم رفع رأسه، وقال: سنذهب معا حينما يسيطر النوم على هؤلاء الكلاب ونستولي على ما نستطيع من سيوفهم، فإن العقرب لا تلسع إذا قطعت حمتها. اذهب عني الآن يا مسعود وأيقظ محسدا وسأكون معكما بعد قليل.
ومر من الليل ساعة، فغادر المتنبي رحله وقابل ابنه ومسعودا، وانسلوا تحت ستار الظلام إلى معرس العبيد فرأوهم نياما، وقد ألقى كل سائف منهم سيفه إلى جنبه، فمشوا بينهم في هدوء لا يسمع له ركز ولا تحس نأمة، وندلوا سيوفهم واحدا بعد واحد. والعبيد في سبات كاد يجعله السغب والكلال موتا. وتبلج ضوء الصباح، وتيقظ العبيد فتفقدوا سيوفهم فلم يجدوها فذعروا أول الأمر، ثم عرفوا أن المتنبي شعر بمكيدتهم فسلبهم سلاحهم وهم رقود، فقال مجاهد: لقد سرق سيدنا الأحمق أسلحتنا ونحن نيام، ولكن هذا لن ينجيه من أيدينا، إن بضعة رجال منا يكفون للقبض عليه، ولو كان متسلحا بسيوف الهند كلها. هلموا إلى الثورة أيها الشجعان!
فقام العبيد وكان المتنبي قد أخذ لهم الأهبة، فما كادوا يصلون إليه وإلى من معه حتى أركضوا فيهم جيادهم، وأخذوا يضربون بالسيوف يمينا وشمالا، فبهت العبيد وذعروا وتملكهم الوهل، وفر بعضهم، وقبض أبو الطيب على مجاهد وشعلان وبعض الثوار، وأمر أن يقيدوا وأن يضربوا بالسياط حتى تتهرأ أجسادهم، وتضرع له العبيد وتذللوا وأعلنوا التوبة، وشفع فيهم محسد فأطلقهم فانكبوا على يديه يقبلونها خاضعين آسفين.
ولم تمض أيام حتى بلغ المتنبي «حسمى» وهي أرض طيبة كثيرة الماء تحيط بها الجبال الشامخة، وينبت بها كثير من النبات والفاكهة، فنزل بها القوم بعد أن نهكتهم الصحراء وشفهم طول السفر وبعد الطريق. وكان بنو فزارة يخيمون بحسمى، وكان لأبي الطيب صلة قديمة بأميرهم حسان بن حكمة، فنزل على جار له حتى لا يجر على صديقه غضب كافور إذا علم بنزوله عنده، وكان هذا الجار يدعى «وردان بن ربيعة الطائي» وكان لئيما خسيس الطبع جشعا خائنا، فما كاد يرى حمول المتنبي وذخائره حتى وسوس إليه الجشع أن ينتهب منها ما يستطيع، وبأي وسيلة يستطيع، فأظهر الحب والمودة لعبيد أبي الطيب، وكان يدعوهم إلى خبائه ويدفع زوجه وكانت ذات ملاحة إلى مجالستهم ومجاملتهم وإغرائهم، وتمكن بهذه الذرائع الخبيثة من دفع العبيد إلى استراق كثير من أموال المتنبي وأمتعته، وكان للمتنبي سيف مقبضه ونعله من الذهب الخالص، فطمع فيه وردان وزين لشعلان سرقته، فتربص ذات ليلة حتى علم أن القوم أدركهم النعاس، ومشى في رفق وحذر ثم استرق السيف من الرحل، ودفعه إلى مجاهد وأمره أن يركب ويسرع إلى وردان، ثم هم بأن يسرق فرس المتنبي ليفر به، ولكن المتنبي رآه وهو يحاول حل رسن الفرس فزجره فلم يزدجر وبدا في وجهه الغدر والعناد، فضرب وجهه بالسيف فشطره شطرين، وخر العبد صريعا، فقال:
Неизвестная страница