لقد رأيت مرة بينما كنت أسير خلف دار الأوبرا صبية من لمامي أعقاب السجاير يرتعون ويلعبون. فوقفت في ناحية لأنظر إلى مرحهم، وأضحك من هذه السذاجة الرثة اللاعبة ... وبينما كانوا في شغلهم إذ أقبل عليهم صغير من مساحي الأحذية، ووضع صندوق عدته بجانب الجدار، ونسى واجبه من السعي على الرزق، وأخذ يلعب هو الآخر مع نظرائه اللاعبين . وبعد قليل أقبل عليهم صغير رومي ممن يتجرون بالكعك والحلوى، فوضع بجانب صندوق المساح سلة تجارته وحيا الصغار بابتسامة، فحيوه بأحسن منها، ثم أخذ يشاطرهم أصناف اللعب من جرى ووثب. عندئذ أيقنت أن للطبيعة حكما أقوى من حكم الأجناس وأوضاع الحياة وشؤونها. إنهم صبية نسوا أن وراءهم أعمالهم التي يكسبون منها أقواتهم، ونسوا أنهم من أجناس ولغات وديانات مختلفة. نسوا كل ذلك، فجمع الصبا وشئون الصبا فيما بينهم، وعلى ذلك علا صوت الطبيعة على صوت الآراء الاجتماعية التي طالما كان من أمرها أن تفرق بين الناس، وطالما كان من أمرها أن تدعوهم للتنابذ والشقاق.
وكان الأمر كذلك في شم النسيم. فقد اجتمع أهل مصر على الاحتفال به، فأغلق صاحبي الحلاق حانوته. وأغلق بائع الدخان الأرمني حانوته، كذلك واجتمع الفرنجة والنصارى والمسلمون واليهود في مصر على أمر واحد، على تحية الربيع وتفريح النفس بمقدم الربيع.
وكم من صوت للطبيعة يدعو الناس للتقرب، ولكن الأفكار الفاسدة ووساوس القلوب المعتلة طالما سمعت للتفريق.
عيد آمنة
القاهرة في 19 من مايو سنة 1923
إنها قطعة من النسيج الرقيق في نحو المترين، ولم تكن لتصلح لشيء مذكور، تلك القطعة التي بقيت من جلباب لسيدة من سيدات الدار. اتفقت فتيات البيت على أن يجعلن من تلك القطعة رداء لآمنة لتلبسه في يوم العيد. •••
آمنة فتاة صغيرة في نحو الثامنة من العمر، قصيرة القامة، مليئة البدن، بسامة الوجه، مشرقة الجبين. ولقد أبقتها أمها القروية عندنا لتترعرع في حضانة من في الدار، فهي أصغر من في البيت سنا، وهي صديقة للبيت ولمن في البيت. وهي ابنة للجميع، وخادمة أمينة للجميع.
ولما علمت الفتاة الصغيرة بمشروع سيداتها من أنهن يحتلن ليجعلن لها من قطعة النسيج جلبابا تتزين به في العيد، ولما تبينت صحة الخبر إذ رأت تفصيل الثوب وخياطته، فاض على وجهها السرور، وفاض في نفسها النشاط. فتطوعت لكل عمل من الأعمال التي تقدر عليها. بكرت على غير عادة، فأطعمت دجاج الدار وحمامه، وملأت أوعية الماء، ونشطت كل النشاط على غير ما ألفنا منها، ولم يكن لهذا من سبب إلا أنها تحققت أنها تلبس الثوب الجديد غدا، وأنها تلبس حذاءها وتستقبل العيد. •••
لقد كان الأمر، فجاء العيد، وارتدت الفتاة ثوبها القشيب، وزينت جيدها بعقدها الخشبي، ووضعت في جيبها كل ما اقتصدت من مليمات لا تتجاوز عدد الأصابع. وأذن لها أن تلعب في الحارة أمام الباب.
ولم يكن في البيت إنسان إلا آمنة والشيخ الأسود العجوز. أما نحن أهل البيت، فكنا ذهبنا إلى المقابر، وكلنا قد بلغنا من العمر ما يؤهلنا لذكر أعزاء لنا قد غابوا في الثرى. فمنا من يذكر زوجا، ومنا من يذكر أما، أو أخا، أو أختا، ومنا من يذكر والدا، أو جدا، ومنا من يذكر إخوانا وأصدقاء.
Неизвестная страница