على أن الموكب الفخم الذي احتفى بجهان ذاك الاحتفاء لما يبهج ناظرها، ويسر قلبها لو أنه جاء في غير هذا الوقت؛ إذ كانت عوامل الغضب والحنق تتأجج في صدرها ذلك الصباح، فما نفع الشهرة والمجد والنبوغ وهي تعاني أشد الأمور، تقاسي الذل، تقف في باب وزير كأنها طالبة رفدا، أو كأحد طلاب الوظائف الذين لا يفارقون ذلك المكان، ويؤبى عليها الدخول؟ وما الذي يحمل أولي الأمر على الامتناع من مقابلتها، وطالما التمسوا مساعدة قلمها السيال، وطالما رحبوا بها، وتأهلوا مظهرين عظيم سرورهم بها، ومقدرين كل مساعدة تقدمها إليهم، وكل كلمة جميلة ترسلها إلى آذانهم؟ أويمكن أن يكون أبوها خائنا لأمته؟ إلا أن مقاومته دعوة الجهاد ليست على شيء من الخيانة، كلا ليس هذا السبب، لا بد أن يكون ثمة أسباب أخرى، أو لعله أساء نحو الجنرال فون والنستين! ولكن كيف يمكن أن تعزى إساءته إلى خيانة الأمة، خيانة الحكومة!
استسلمت جهان إلى بساطة قلبها، واستملكتها سذاجة الفطرة التركية، وهي كثيرا ما تلجأ إلى مثل ذلك لدى وقوعها في مشكلات الأمور، فاستمرت تسائل نفسها: ولماذا ألقي القبض على أبيها؟ ولماذا لم يأت الجنرال فون والنستين ليراها، ولماذا لم يكتب إليها أو يخبرها بالتليفون عما جرى؟ ترى أيأمل أن تذهب إليه أولا؟ ولقد تبادر لذهنها أن تتردد في أن من المحتمل أن أباها نسي أن يخبره لماذا لم تقابله بدلا من أبيها يوم زارهم في الصباح، «أو لعله يا ترى يظن أنه بتلك المعاملة يستطيع الحصول على رضاء أبي، فيقتادني إلى مشيئته فيضعنا كلانا تحت رحمته، فنذوق بأسه، ونشعر بقوته ونفوذه؟ إنه في ضلال مبين، لن أذهب لمقابلته.»
وعادت جهان إلى منزلها، وفي الحال كتبت إلى جلالة السلطان كتابا تلتمس به سماحه باجتماع خصوصي بينها وبين حضرته السلطانية، وفي اليوم التالي تناولت جوابا لطيفا من مستشار السلطان الخصوصي مذيلا بمذكرة خصوصية من قلم المستشار نفسه جاء فيها نصيحة لجهان أن تأتي إلى يلديز، وعليها أردية سيدة عثمانية تليق بشأنها، وعلى وجهها القناع المعتاد، ولقد اشمأزت من تلك المذكرة، وحق لها الاشمئزاز، ولكنها رغبت في التسليم لمشيئة جلالة الخليفة المعظم على أمل أن تحصل على إعتاق أبيها؛ لعلها تستغني عن استرحام الجنرال فون والنستين.
أما اجتماعها بالسلطان فلم يأت - ويا للأسف - بالفائدة التي أملتها؛ فإن جلالته أجابها على التماسها بهدوء ورزانة وهو يهز رأسه المغطى بالبياض مبديا عظيم أسفه، وعميق شعوره مع كريمة تابعه الأمين المحبوب رضا باشا، ولقد ذرف بالفعل دمعه من كفر الأيام، ومعاكستها، وتلبد جوها بالغيوم المظلمة إذ أصبحت فيها كلمة الخليفة غير مطاعة، ولا مسموعة، ولا معتبرة. - لتكن مشيئة الله تعالى يا بنيتي، علينا أن نسلم أنفسنا لإرادته تعالى فهو يفعل ما يشاء.
وخرجت جهان من يلديز بحالة سوء وهيجان لا تلوي على تسليم وإذعان، وهي حالة أشبه بالعاصمة العثمانية نفسها في ذلك اليوم، فإن المدينة كانت تتأجج فيها نار التعصب الذي تطايرت شظاياه في كل ناحية من نواحيها، وهي روح راقت لجهان؛ لأن فيها آثار الثورة تعمل في نفسها، فتشتد تعلقا بالإسلام أكثر من كل يوم من أيام حياتها، إلا أن المقالة الثورية التي كتبتها لجريدة طنين يجب أن تمزق؛ لأن الجريدة التي لمحت تلميحا عن فاجعة غاليبولي قد صدر الأمر بحجبها، وهناك أيضا كاتب تهجم على الحكومة، ورمى الطاغية الألماني بانتقاد عنيف؛ فأودع غيابات السجن مكبلا بالحديد، وكان البوليس حيث يرى اثنين يتهامسان في الشارع، ويتساران يدخل بينهما معترضا باسم المحالفة والإسلام، وجميع الظواهر تدل على أن الطاغية الحديدية كانت قابضة على الأستانة، وكل أرباب المصادر، وأولي الأمر فيها تحت أمره ومراقبته.
على أن في المدينة أماكن عديدة لم يستطع جواسيسه أو رجال حاشيته أن يدخلوا إليها، ولا رجال البوليس والخفية أولئك ممن هم دونه نفوذا وقوة، وتلك الأماكن إنما هي عرصات الجوامع، والجوامع نفسها حيث كان الناس يتألبون للمحادثات عن ماجريات النهار وشئونه المحزنة يؤولونها تأويلات شتى، وهناك خطر عظيم من احمرار عيون المتمسكين بالإسلام تمسكا شديدا، المتعصبين لمذهبهم تعصبا غريبا، وهم ممن تقصر يد الحكومة أجنبية كانت أم وطنية عن القبض عليهم.
ولقد عاد الخصي سليم ذات مساء من صلاته في أحد الجوامع فأعاد لجهان إجابة على سؤالها ما سمعه في الجامع. - كانوا يا مولاتي جماعات جماعات بين كهول وأحداث، شيوخ ومعلمين، أفندية وحمالين ومتاجرين، يتهامسون ويضجون مشيرين بأيديهم، وإياها باسطين، مستغيثين بالله المعين، ولقد سمعت أحدهم يقول: وما يزيد في الهول والفداحة أنه سيتزوج بالابنة بعد أن يعدم أباها وابن عمها، وقال آخر: إن هذا لمما يأباه الإسلام، ومما لا نتحمله، فإنه والابنة سيذبحان كالخنازير، وقال شيخ مسن: قسما بالله والمصطفى لن نسمح لألماني مهما كان نافذ الرأي، عظيم الشأن أن يدنس سلالة الإسلام، وقد أجابه صديق له معلم «خوجه» حدث السن: كلا، إن هذا لمن المستحيل، ويجب أن تنذر ابنة رضا باشا؛ فإنها إذا أذعنت لإرادة كافر فسوف تجر من بيته، وتسحب من حضنه الدنس، ويعمل بها السيف، هذا ما سمعته بأذني يا خانم، وأقسم بالله قد ارتجفت لسماعه خوفا وذعرا.
أما جهان فأخذت تتأمل في نفسها قائلة: لعل هذي هي الروح الإسلامية التي رغبت أن تلجأ إليها مستغيثة، أو هذا هو الشعب الذي تطلب معونته باسم العدالة والحرية؟ لا. لا. لا. إنهم لا يفهمونها، ولن يحسنوا فهمها، فإن بينها وبينهم لهوة تزداد عمقا، وظلاما يوما فيوما.
ولقد لبثت جهان يومين بعد زيارتها يلديز لترى ما يفعل الجنرال فون والنستين، ولما رأت أن انتظارها ذهب أدراج الرياح عزمت على أن تذهب لمقابلته بنفسها.
الفصل الحادي عشر
Неизвестная страница