يا للعجب العجاب! كيف تؤثر علي هذه الأشياء التافهة، إن هذه الشهامة إلا تقليدا ميتا كأكثر تقاليدنا، إن هي إلا مظهرا يظهر فوق رداء الجندي، بهرجة فارغة، فخفخة فانية.
أما أطوار المرأة، فلئن تكن وقتية متقطعة فهي ملازمة الترداد، وحقيقية كالصدر الذي يعي أسرارها، حقيقية كالشفاه التي تفصح عنها، أصلية كالزهيرات على حافة الطريق تبرعم في السحر، وتذبل فترجع إلى الأرض ريها، وتعيد إلى الشمس خواصها الذي لا يباع ولا يشترى، وهي تظمأ وتجوع كالصنوبر الشامخ كبرا، كالكرمة المتعرشة المخيمة مجدا، أطوار المرأة وإن كانت تافهة فهي جوهرية تماما، فإنها تستقي من ينبوع الحياة أسمى الهامات النفسية التي تولدها الوساوس الغريبة والطباع العجيبة، ولهذا إن شفتي رجل تلثمان يد هذه المرأة التي خلقت لتقبل يد الرجل استرعتا منها كبير الأهمية، بلى فقد أهاجتا منها ساكنا لا تحركه أخلص قبلات الحبيب وأحرها، وهو أمر جاءها مثالا لمبدأ نيتشى الذي يقول بعكس القياسات المألوفة، أو بنفي الوضعيات من الفضائل والمكارم، وطالما اشتهت من مظاهر السيادة ذلك الإجلال الذي حرم على أمهات شعبها.
عادت جهان تفكر بما كان يجول في رأسها وهي متمسكة بقلبها، متحفظة، فقالت: وناهيك بالجنرال فون والنستين من رجل لا يصدق ظاهره عمره، فهو كبير الخلق، ولم يزل شديد البنية، مهاب الطلعة، جذاب المحيا، وهو رجل بعيد الصيت، ويل الهائمة المسكينة من وجنتيه الحمراوين الضاربتين إلى السمرة، وعينيه الشهلاوين البرقيتين، وأرديته الحربية الفاخرة فهي كلها تهزأ بسنيه، وبما أثقله به الزمان.
ولكنها عادت إلى أحلامها طامحة مستبسلة، فسألت قائلة: ويكون ذلك انتقاما يا ترى أم تضحية؟ أيجب عليها أن تبيع شرفها في سبيل الحرية التي تطمح إليها؟ ألا وهي الحرية في انتخاب أب لولدها، ولو أدى الأمر إلى هدم معاهد شعبها، وتقاليده المقدسة، فإن أمها بل أمهات عنصرها اللواتي تراءين لها بالقيود قد طلبن إليها أن تقتص لهن بهذه الطريقة، فقد رسخ في عقلها أنها هي المنشودة لهذا العمل الخطير الجليل، وأنها كسيف نقمة يشهر له على طغيان الرجال، كذلك فسرت الرسالة السرية، وهذا ما فهمته من تلك الرؤيا.
وقفت متيقنة مترددة، إذ ماذا يحدث يا ترى إذا انكسر سيف الانتقام في ضربة واحدة؟ تستل إذ ذاك سيف التضحية، ولم تكد تشحذ قصدها حتى انتقلت بخيالها من عالم الأحلام إلى عالم الحقيقة، وجهان ابنة معقول كما أنها ابنة خيال تنتقل من حال إلى حال بسهولة غريبة، فإذا قبح عقلها الوقاد الضعيف معا أوهامها عادت إليه، وإذا نفرت من مكروهات الحياة لجأت إلى أحلامها عادت الآن إلى معقولها؛ فرفعت صوتها قائلة: كلا، لا تضحية ولا انتقاما، بل سعيا في سبيل سعادتي، وطاعة لأوامر حلمي بالحرية، حرية الانتخاب إذا أحببت أن أكون أما، حريتي في والد ولدي ولا فرق إذ جاءتني بفتى أو بفتاة، فالفتاة تستطيع أن تتحداني في تحرير المرأة التركية وتكمل عملي، والفتى - بعون الله - ينشأ بطلا؛ فيكون جنديا وطنيا نافعا، منقذا أمتنا، ومرمما دولتنا المتداعية؛ وقد يستحيل تحقيق آمالي برجل من شعبي، ثم صاحت قائلة: «يا لله من الوحش الأشقر!»
1
قالت هذا وانقطعت عن الكلام ترتعش رعبا كالمرء في الغاب، وقد صادف حيوانا ضاريا في منعرج طريقه، فودت لذلك أن يعود سليم في الحال إليها.
تمددت على الديوان وهي تحاول حبس أفكارها؛ خوفا من أن تجرها إلى المخاوف والمكربات، ودت أن لا ترى شيئا، وأن لا تشعر، وأن لا تفكر بشيء، ولكنها ضعفت عند وساوسها عزما، فجرها الفكر هذه المرة إلى أبيها، فهي تحب أباها حبا لا يفسده مبدأ نيتشى القائل بعكس القياسات المألوفة، وبنفي الفضائل الوضعية؛ لذلك تكره أن تزيد ببلواه، وتحب أن تذعن لبعض أوامره، فعليها إذن أن تضرب صفحا عن عصيانه، وأن تسكت على الأقل إذا نطقت الأنانية بلسانه، وأن تقيم على عهود البر وهو في شيخوخته، فتكون له كما كانت في الماضي رفيقة قلبه الوحيدة، ومرهما لجروحات نفسه. ولكن من المستحيل أن تذهب وإياه إلى قونية، وتقصي نفسها في وقت كهذا إلى مجاهل الأناضول، من المستحيل! فإنها لا تستطيع أن تضحي في سبيل حبها البنوي تضحية عظيمة كهذه، ولكن ... ولكن هب أن شكري بك يسير إلى ساحة القتال، وأن الجنرال فون والنستين يأبى إلا الاقتران بها، أو أن أمرا آخر ... ربي ما لي وهذه الأفكار الآن، فإذا كان لا بد من حدوث المكاره من عسف هذا الألماني فهناك طريق أخرى، طريقها الخاصة طريق حريتها التي يجب أن يسير فيها راضيا أو مكرها.
وقد كانت هذه الهواجس تتزاحم في صدرها، وتلتهب ساعة دق على الباب سليم، ودخل مقدما إليها علبة صغيرة فتحها أمامها في الحال. - هذا القدر فقط يا سيدتي (قال هذا مشيرا إلى بياض ظفره) ذوبيه بقليل من الماء، أو إذا كنت تؤثرين فنجانا من القهوة. - كلا يا سليم، قليل من الماء يكفي، يمكن أن تنصرف.
ولكنها ظلت إلى حين أسيرة هواجسها وهي في سريرها بين يقظى ونائمة، فإن ذلك الداهية الذي ينحدر من عالم الظلام غامسا جناحيه الأسودين بشعاع القمر ليأتي متلصصا أبواب النيام، كان يسمعها تناجي نفسها بعدما تسرب المنوم إلى عروقها، فتقول: ولد من بروسياني، من هذا الالماني، إما تضحية وإما انتقاما.
Неизвестная страница