فقال أحمد متصنعا السكينة: ليس هناك ما يدعو للقلق، ولكن لا محيد عن المصحة.
وكان رشدي لا يزال نافرا من المصحة ولكنه لا يجرؤ على قول «لا» بعد ما صار إليه حاله، فدعا أخاه إلى جانبه وقال له بتوسل وعلى مسمع من أمه: لتكن المصحة إذا شئت، ولكن ...
وأومأ إلى النافذة، واستدرك: ولكن لا أحب أن يعرفوا الحقيقة!
فاشتد التأثر بالرجل، وخفق فؤاده بحزن عميق، وقال: لا تخف فمن السهل أن نقول إنك مصاب بماء في الرئة أوجب سفرك إلى المصحة!
فتساءل رشدي محزونا: وهل يجوز هذا عليهم؟
فقال أحمد: إن التداوي من ماء الرئة يستدعى زمنا طويلا، ومهما يكن من أمر فالعناية بصحتك أولى بالاهتمام مما عداها.
39
ولم يضع أحمد وقتا، فقام بالإجراءات المتبعة لإلحاق شقيقه بالمصحة، مستعينا بتوصية الطبيب المداوي ووجد أن سريرا سيخلى في أول مارس لانتهاء مدة علاج صاحبه، فقرر انتقال رشدي من ذاك التاريخ، وفي المدة القصيرة التي سبقت السفر عانت الأسرة آلاما برحاء، وكان رشدي يكابد من السعال عذابا مضنيا وسهادا متقطعا. وغرق الوالدان في حزن ذاهل، وتكدر صفوهما، ولاحت في أعينهما نظرة واجمة امتزج فيها الرجاء بالخوف. ووقع أحمد فريسة لهواجسه فانقلبت حياته غما وجزعا، وعاد كمال أفندي خليل الشاب، وأكد له أن «ماء الرئة» لا خطر منه البتة مع العناية! ثم زارته الست توحيدة ونوال ولم يكن أحمد بالبيت وقالت له إن غرامه بالنحافة هو الذي أدى به إلى المرض، وتعهدت له ضاحكة، بأن تتولى تسمينه بعد الشفاء، ولم تدر نوال ماذا تقول على مسمع من الوالدتين، ولم يستطع الشاب أن يديم إليها النظر، ولكن عينيه التقتا بعينيها في لمحات خاطفة فتجاوبت رسائل الحب والشكر والحزن الصامتة، وسر رشدي بالزيارة سرورا لم يشعر بمثله منذ استسلم للرقاد. وبعد خروج المرأة وابنتها أعرب لأمه عن خوفه من حقيقة مرضه، ولكن المرأة المحزونة طمأنته قائلة إن مرضه سر مطوي في صدور محبيه.
وفى صباح اليوم الأول من مارس حملت عربة الشقيقين إلى محطة باب اللوق وكان دعاء الأب آخر ما سمع رشدي في البيت، وكانت دموع الأم آخر ما رأى، وفي الطريق قال الشاب لشقيقه: إذا طالت مدة التداوي فصلت من عملي حتما!
فقال له أحمد بثقة: وحتى لو حدث هذا - لا قدر الله - فعودتك إلى عملك مرة أخرى أمر يسير، ولا تشغل نفسك بغير الشفاء!
Неизвестная страница