ترى ماذا لقي من الحياة بعد ذلك اللقاء الذي مضى عليه ربع قرن من الزمان؟ ماذا لقي يا زينب؟ كلا .. لقد تغيرت الحارة تماما، أين الحوض الذي كانت تسقى منه بغال عربات الرش؟ أين كشك الحنفية العمومية؟ وهؤلاء الزبائن المزعجون ألا يريدون أن يسكتوا؟ وكيف تشعر أنت بهذه الغربة وأنت جالس في مسقط رأسك، وبين ذكرياتك الحميمة؟
ورفاعة يخجل مؤثرا السلامة على أي شيء، إنه يخاف الشربيني ويضاعف من تودده إليه. وزرنا القرافة في أحد المواسم قبيل وفاة رفاعة بأيام، كنا نفرح كثيرا بزيارة القرافة في المواسم، ونلعب في الحوش. أما إذا ترامى إلينا نبأ ميت جديد، فنهرع إلى القبر لنشهد الدفن ولو من بعيد، ووقفنا عند قبر أم رفاعة نتبادل الأحاديث، وسأل سائل لم أعد أذكره: ماذا يفعل الأموات في القبور؟
فأجاب رفاعة بإيمان: إنهم يروننا ويسمعوننا، أمي تراني الآن وتسمعني، كانت تقول لي ذلك، وهي صادقة. - والظلام؟ - يذهب بتلاوة القرآن، وتوزيع الرحمة على المساكين.
وتلا الصمدية. - والحساب؟ - يكون في أول ليلة فقط. - والمرزبة؟ - فظيعة! ولأنها تركتني صغيرا يتيما، فذلك خفف من الحساب، هكذا قال أبي. - وكلنا سنموت!
فتساءل الشربيني بارتياب: كلنا؟ - نعم كلنا، حتى سيدنا النبي مات.
وهز الشربيني رأسه هزة غامضة. - وهي الآن في الجنة؟ - الجنة لا توجد قبل يوم القيامة. - ويعاد الحساب مرة أخرى؟ - قال سيدنا ذلك في الكتاب وأكده.
وتمتم الشربيني باسما: عليه العوض.
كم كان مؤثرا محزنا مذهلا أن نقف في نفس المكان بعد ذلك بأيام، لنشهد دفن صديقنا الرقيق المهذب العزيز رفاعة، رأيناه في كفنه وهو يحمل من النعش، وهم يختفون به في القبر ليضعوه إلى جانب أمه، لم أصدق وبكيت طويلا، وعدت أنا والشربيني وآخرون ونحن لا نمسك عن الكلام، وقلت إنه لن يحاسب لصغر سنه، فقال لي أحدهم إن الحساب يبدأ من العاشرة، واختلفنا في ذلك، وطال الشد والجذب. - على أي حال، فحسابه يسير. - وسيكون من السقاة في الجنة.
عكفنا على ذلك حتى رجعنا إلى الحارة، والظاهر أني بكيت أكثر مما احتمل الشربيني، فقال وهو يرمقني بحدة: أنت خائف!
فقلت: إنني حزين.
Неизвестная страница