ولكنه عرف سبيله ولن توقفه قوة، هناك أمل، عند الأفق، وراء حياته الذابلة التافهة الجدباء، أمل يعده بالقوة والنور والامتياز، سيتحول الرجل المسكين إلى شخص نوراني باهر يأتي بالمعجزات، وسوف يوارى بعد عمر طويل في ضريح مبارك.
وازدادت معلوماته يوما بعد يوم، ولكنه كان يدرك أن جوهر المسألة لا ينهض على العلم، وإنما على قطع طريق طويلة، خطوة خطوة، مقاما فمقاما، وحالا بعد حال. أين يجد الصبر؟ كيف يسعفه الوقت؟ ومن أين له بالقوة والعزم؟ ولكن هل ينسى أن المعجزة قد وقعت في «فينيسيا» بلا مقدمات ولا تمهيد، بلا معرفة ولا ثقافة، وبلا أدنى فكرة عن الطريق ومشاقه؟! حدث ذلك فعلا، بعد عمر طويل من الخمول واليأس، حدث أن تجلت موهبته فجأة في حانة وهو يشرب النبيذ الأحمر! وإذن فما عليه إلا أن يتابع قراءاته وتأمله، وأن ينتظر بعد ذلك المعجزات، وهي آتية لا ريب فيها، وكان عجيبا أن يرتفع صوت زوجه مرة أخرى لينعى عليه كفه عن العمل على الآلة الكاتبة في غير الأوقات الرسمية لزيادة دخله، ها هي تفكر في الآلة الكاتبة وما تدره من قروش في اليوم، غافلة عن همومه الحقيقية، جاهلة بالحقائق الجدية في هذه الحياة. ها هي تنعى عليه انزواءه وتأمله، وإهماله أسرته ومظهره، ووقوفه موقف التسليم وعدم الاكتراث من مضاعفات الفقر التي اجتاحتهم، إنه يلقى نعيها بالصمت والصبر الجديرين به، تاركا الفصل في القضية للزمن وحده. ستصبح ذات يوم، فإذا بها زوجة لولي من أولياء الله الصالحين، ستطرق أبوابهم رحمة الرحمن، وسيرتفعون فوق الناس درجات ودرجات.
وطال به عهد القراءة والتأمل، حتى اقتنع بأنه آن له أن يجرب موهبته.
مضى إلى أقرب مقهى من داره متوكلا على الله، سأل الجرسون عن اسم شخص وهمي كما اتفق له النطق به، نفى الرجل معرفته به كما توقع، جلس ينتظر من التليفون أن يخف لنجدته، انتظر حتى ميعاد التشطيب ولكن دون ثمرة.
وتنقل من مقهى إلى مقهى، وخطر له أن المعجزة ربما لا تريد أن تتحقق إلا في حانة، فراح يطوف بالحانات، ولكن بلا جدوى. لم يستسلم لليأس وإن شقي بتجاربه، وهصرت التعاسة قلبه، وأخيرا قادته قدماه إلى حانة «فينيسيا»، وكان طيلة الوقت يدور حولها ولا يقترب منها خوفا من إجراء تجاربه فيها؛ إذ خيل إليه أن الفشل في فينيسيا إنما يعني فشلا نهائيا يسد أبواب الأمل. طلب دورق نبيذ أحمر، لا ليسكر، ولكن مجاراة لتقاليد المحل، ومضى يتساءل عما يجدر به فعله، وفيما هو في حيرته إذ خطر له أن أحد الزبائن سيسقط عن مجلسه ميتا! أتكون هذه هي المعجزة المنتظرة؟! لقد وردت على ذهنه من تلقاء نفسها، وهي ليست باسمة ولا خيرة، ولكنها ستكون معجزة بلا ريب، ولعلها تخفي في طياتها خيرا غير منظور ولا ملموس، ومضى يجول ببصره بين الوجوه الضاحكة متسائلا عن صاحب الوجه الذي ستتحقق ولايته على يديه. وفيما هو يجول ببصره، إذ لمح شخصا وهو ينفصل عن مجموعة معربدة ليستقر إلى مائدة خالية إلى جانبه. جذب سلوكه انتباهه، فغلب على ظنه أنه الشخص الموعود. نظر نحوه، فرآه يرنو إليه بعينين باسمتين، بسمة لا تخلو من قحة، فتوقع أن يمازحه على طريقة السكارى، كلما نظر نحوه طالعته ابتسامته الجريئة، فسرعان ما يتحول عنه، ولاحظ إلى ذلك أن أصحابه المعربدين يسترقون النظر إليه - إليهما على الأصح - كأنهم يتابعون مشهدا مثيرا، أو يتوقعون حدثا يتخذون منه زادا لعربدتهم، تولاه شيء من القلق، فصمم على تجاهله، ومضى يجول ببصره بين الوجوه، وإذا بالآخر يهمس له متسائلا: لم لا تشرب؟
ها هو يبدأ لعبته، ليكن على حذر منه، وتجاهله تماما، فعاد الآخر يقول: كان ينبغي أن نكون أصدقاء منذ زمن بعيد!
إنه يستدرجه ليثب من فوقه إلى عربدته، فليصر على تجاهله. - إنني أتذكرك جيدا، كنت تجلس في نفس المكان.
عم يتحدث السكران؟ لو في المكان مقعد خال لانتقل إليه. - كنت ليلتها تشرب وتبتسم، وكنت وحيدا، أنت دائما وحيد.
ترى هل شهد ليلة المعجزة؟! وأخذ يهتم به على نحو جديد. - كنت أجلس إلى جوارك بين عدد من الأصدقاء.
متى يسكت؟ متى يذهب؟ متى يموت؟ - وسمعتك تسأل الجرسون عن شخص اسمه .. اسمه؟!
Неизвестная страница