قالتها بلهجة من لا ينتظر زائرا على الإطلاق، بيت مهجور كأن القطيع كله لم ينطلق منه إلى الساحات الدامية. - حقا نسيتني يا أم محمد؟
رمشت عيناها طويلا، ثم أضاءت بانتباهة مذهلة: سيدي عبد الرحيم! .. يا خبر!
دخل وهو يحبك عباءته السوداء حول قامته الفارغة، ثم ترك لها يده تلثمها بحرارة قائلة: من يصدق؟! .. من يصدق؟!
ثم وهي تضبط أنفاسها: سأذهب لأخبر ستي.
فاعترضها بعصاه قائلا: لا .. أين حجرتها؟
أشارت إلى باب في نهاية الصالة الممتدة إلى يمين الداخل، وقالت: يجب يا ...
فقاطعها بحزم وهو يسير: أعرف ما يجب، أعرف كل شيء، ولا أريد أن يزعجني أحد.
دخل الحجرة متمهلا، وبلا صوت، وبقلب يزدرد انفعاله بصلابة معهودة، ثم أغلق الباب وراءه. وقف في وسط الحجرة وهو ينظر إليها بتمعن واستطلاع، ورغم غلظته تأثر بعض الشيء، تسربت إلى أنفه الأفطس رائحة غريبة وأليفة معا، كما تنبلج ذكرى ضائعة، فدفعته إلى أحضان الماضي. ها هو يعود إلى صميم نفسه، وتربعت المرأة على كنبة قابضة بأصابعها على مسبحة طويلة لامست شرابتها البساط، ولكنها لم ترفع رأسها إليه، وكأنها لم تشعر له بوجود، وقد تلفعت بخمار غامق لم يتضح لونه في جو الحجرة الغامض المحجوب عن النور بنافذتين محكمتي الإغلاق، إنها تتجاهلك بلا شك، لعلها سمعت ما دار من حديث في الصالة فتأهبت لتجاهلك. لا تعجب لبرودها، فكم قاست وكم عانت! وهي على أي حال أم المآسي، فكيف تخلو من روح العنف! .. وماذا توقعت عندما اضطرتك الحال إلى العودة؟ وابتسم ليلين من قسوة وجهه الداكن كجلد مدبوغ، ولكنها لم تأبه له البتة، وراحت تسبح بصوت مهموس ثم تثاءبت! اختفت الابتسامة من وجهه. إنها أشد مما تصور، إنها أقسى من تاريخ الأسرة الدامي، لكنني عنيد أيضا، لم أقطع الوادي لأسلم بهزيمة عاجلة. توقعت سخطا ولعنا وبكاء ومرارة، ولكن ليس الصمت والتجاهل، تلك صدمة أجلت فكرة تقبيل اليد إلى حين، والانسحاب أبعد ما يكون عن الخاطر، لم يبق إذن إلا طريق وسط، قال بهدوء: نهارك سعيد يا أمي.
واقترب خطوتين مادا يده، ولكنها لم تشعر له بوجود. صدمة أشد من الأولى، الماضي بكل مآسيه لن يخفف من قسوة اللطمة، حق أنك آخر من يعجب لقسوة ما، وعليك أن تؤدي حساب عشرين عاما من المقت، وهي كما ترى لا تبرأ من صفة الضجر، وابتسم ابتسامة مفجعة وهو يتقهقر نحو الفراش ثم جلس على حافته، وضع طربوشه على الوسادة، واعتمد براحته على العصا. ما دمت قد رجعت إلى مهدك، فلا بأس من الجلوس على الفراش. - الحق أني لم أتوقع مقابلة لطيفة، ولكني لم أتصور هذه القدرة على الإعدام!
وضحك ضحكة قصيرة ميتة، وقال: نحن أسرة الأنياب والأظافر، ولكني مشوق إلى معرفة النهاية.
Неизвестная страница