فكانت الجريدة والمجلة في باريس ولندن من بذور ثقافتي، فقد وجدتني أدرس وأهتم بالمزاحمة التجارية بين بريطانيا وألمانيا، وأدرك ما وراءها من عوامل، كما صرت أقرأ عن الصين والهند وتركيا ببصيرة تسبر الحاضر وترصد المستقبل، وعرفت كارل ماركس، فصرت أجد الدلالة التي لا يجدها غيري ممن يجهلون الاشتراكية في الأحداث العالمية الكبرى.
ومن هنا يجب أن نكثر من شأن التعرف إلى لغة أوروبية حية كي نجعلها وسيلة الثقافة العصرية؛ لأن لغتنا في طورها الحاضر لا تكفي لتخريج الرجل المثقف الذي يمتاز بالعقل العام.
ولست أعني أني أهملت تراثنا العربي العظيم؛ إذ لا يكاد يوجد كتاب عربي قديم لم أقتنه الاقتناء الذهني، ولكني أشك في الاقتناء النفسي، ومعظم الذين يدرسون الآداب العربية من الكتاب في مصر يقصدون إلى اكتساب الأسلوب القديم والتأنق اللفظي، وهذا آخر ما عنيت أنا به؛ لأن نزعتي ليست تليدية تقليدية، وقد كان غرضي الأول في دراسة الآداب العربية الاستنارة عن حياة العرب؛ ولذلك عنيت بقراءة طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وتاريخ الطبري المطول وتراجم ابن خلكان وياقوت وكتب الرحلات لابن بطوطة وغيره، ومع إعجابي العظيم بالجاحظ والمعري، من حيث النزعة الثقافية الموسوعية في الأول والتفكير الإنساني الحر في الثاني، فإني أتوقى الأسلوب الجاحظي كما أستهجن زهد المعري.
وفي كنوز الآداب العربية، وخاصة في الشعر، جواهر لا تزال تتلألأ كلما كشفنا عنها وأنعمنا التأمل في معانيها، ولكن الآداب العربية في مجموعها هي آداب القرون الوسطى؛ ويجب لهذا السبب ألا نطلب منها تكوين الشخصية الأدبية في العصر الحاضر، وعبرتها هي قبل كل شيء تاريخية، والأديب الذي يقتصر عليها يعيش في عزلة ثقافية بعيدا عن التيارات العالمية، بل يعيش في عزوبة أدبية بالمقارنة إلى الذين تزوجوا الآداب الأوروبية.
أما المؤلفون الأوروبيون الذين كانوا بذورا حية في تكوين شخصيتي وإنماء ثقافتي فكثيرون - وذكر أسمائهم فضلا عن تبيان ميزاتهم - يشغل الكثير من الصفحات، ولكني أقول إني التفت التفاتا خاصا إلى الإغريق القدماء، وكسبت منهم كثير من الخصائص الذهنية وخاصة في حرية الضمير ونزاهة الفكر، كما أني عنيت بدراسة الأدب الروسي في سن مبكرة، فارتفعت به إلى مستوى عال من التمييز الفني حال دون ذلك الشغف الذي نجده في الشبان يغرمون بالقصص والمجلات التي تتحرش بالغريزة الجنسية، وإنه لحظ حقا أن يعرف الإنسان دستؤفسكي وجوركي وتولستوي قبل سن العشرين ويحبهما.
ومنذ سنة 1908 إلى الآن وأنا أقرأ ه. ج. ولز، وقد وجدت فيه التوجيه العالمي والإرشاد العلمي، وكذلك وجدت في برناردشو، ولا أظن أن هناك كتابا كتبه أحدهما لم أقرأه.
ولكن مزاجي النفسي يعود في أكثره إلى داروين ونظرية التطور؛ فإن هذه النظرية هي منطق في ثقافتي، وأسلوب في دراستي، ودين في حياتي، وقد كانت بذرية من حيث إنها فتحت لي أبوابا في دراسات أخرى كالسيكلوجية والاجتماع والجيولوجية والتاريخ والسياسة والاقتصاديات والأدب وغيرها؛ لأن نظرية التطور أكسبتني أساليب جديدة واتجاها جديدا في دراستي، وأنا لهذا السبب أمتاز من كثير من الكتاب بأني أنظر النظر التطوري للغة والأدب، ومن يجهل نظرية التطور يعتقد الركود أو الجمود صفة عامة في الحضارة والثقافة والطبيعة، وهو لذلك قد يكره التغير في اللغة والأدب، ويخشاه، ويبرر هذه الكراهة بالولاء مهما كانت حال كل منهما آسنة متعفنة.
وهذه النظرية هي التي حملتني على أن أتوقى الغيبيات، فأغتني عن إضاعة الوقت والجهد فيما لا طائل وراءه من أبحاث مظلمة، كما صرت أحسن الفهم والولاء لهذا الكوكب بهذا التوقي.
ولو شئت أن أذكر المؤلفين العشرة الذين أوثرهم على غيرهم لأني وجدت لهم أكبر نصيب في تربيتي لقلت أنهم: أفلاطون ودستؤفسكي ونيتشه وجوتيه وروسو وداروين وشو وولز وماركس وفرويد.
أما أفلاطون فلأني تعلمت منه النزاهة في التفكير، والجرأة على الترسيم الاجتماعي، كما نجدهما في كتابه الجمهورية.
Неизвестная страница