هل هذا الكاتب يرشد الجمهور ويقوده، أم ينقاد به ويتملقه، حتى تروج مؤلفاته بينه؟ هل هو يسلي الجمهور أم ينفعه؟ هل هو ناضج الذهن، راشد النفس، قادر على النظر الواسع للأمداد العالمية، أم هو صبياني النزعات تافه الأفكار؟
كل هذه الأسئلة وأكثر منها يجب أن يسألها القارئ لنفسه من وقت لآخر، وهذا التساؤل ينقله إلى وجدان جديد يحس فيه تبعات خطيرة في تربيته الذاتية.
ويحسن القارئ إذا هو تتبع أحد المؤلفين الذي يحبهم فلم يترك له صغيرة أو كبيرة حتى يقرأها أو يدرسها، وهو حين يفعل هذا ينتفع بحياة هذا المؤلف، فكأنه هو - أي القارئ - قد عاشها، لأنه يتتبع تطورها من عقيدة إلى رأي، أو من انفعال إلى وجدان، أو من ضمير مصري عربي إلى ضمير عالمي بشري، والقارئ لا بد واجد واحدا من المؤلفين يجذبه أكثر من غيره.
فيجعل هذا الواحد بؤرة ثقافته، وليتعرف إلى كل كتبه، بل ليتعرف إلى حياته، فإن أحسن ما نؤلف هو حياتنا التي نعيشها، وخير الأساليب التي يجب أن نتبعها مع أي مؤلف ليس أسلوب الكتابة، بل أسلوب العيش، ومع ذلك لا يمكن أن نفصل بين الاثنين، وإذا لم يكن الأدب قد أثمر حياة طيبة للأديب المؤلف، فلن يثمر شيئا طيبا للقارئ. •••
وعندنا أدباء نشأوا في أحضان الأحزاب السياسية، فعلموا في الأدب والسياسة معا، وتعلموا من السياسة ألفاظ الوقاحة والواقعية، والتسلق بالغش والخداع، ونقلوها جميعا إلى الأدب، فهؤلاء يمكن إهمالهم؛ لأن دراساتهم ملوثة، مغرضة ، هدفها الكسب فقط؛ إذ هم لا يؤمنون بالخرافات ولكنهم يدافعون عنها تملقا للعامة، وهم يخدمون الدول الاستعمارية ويؤجرون أقلامهم لها، وهم يلوثون الجو الأدبي في مصر بكلمات السباب والبذاء التي تعلموها ومارسوها من الخلافات الحزبية في ميدان السياسة.
مشكلة الثقافة في مصر
مسسنا هذا الموضوع في الفصل السابق من بعض النواحي، ونحتاج هنا إلى أن نمسه من نواح أخرى كي نهتدي إلى مراسينا في الأدب العالمي، أو بالأحرى نتعرف إلى الأسباب التي عملت لتأخير أدبنا وتخلفه عن سائر الآداب العالمية، فليس شك في أننا في تاريخنا القريب، أي منذ ستين سنة، توالت علينا محن سياسية واقتصادية واجتماعية لا يجهل أحد منا الأصل الوحيد الذي ترجع إليه وهو الاستعمار، وقد أصيبت النهضة الأدبية في مصر بقسطها من هذه المحن، فكوفح التعليم، وخاصة تعليم النساء، كما منعت الأمة من تأسيس جامعة مدى خمسين سنة تقريبا، وفرضت غرامات على التفكير، فمن شاء مثلا أن يخرج مجلة جديدة، فإن عليه أن يؤدي «تأمينا» هو في الحقيقة غرامة لا أقل ولا أكثر.
وبهذه الوسائل حيل بيننا وبين النزعات العالمية الجديدة؛ ولذلك فإن كثيرا من تفكيرنا العصري هو تفكير القرن التاسع عشر أو ما قبله، وليس تفكير القرن العشرين، وقد تغير العالم، ولم نحس نحن هذا التغيير. لهذه الحيلولة بيننا وبين التفكير الجديد.
بل إننا نجهل حتى التفكير القديم ومبادئ الثقافة العامة التي يحتاج إليها كل مبتدئ، فليس في اللغة العربية كتاب عصري عن الصين أو الهند أو تاريخ ألمانيا أو أمريكا الجنوبية أو نحو ذلك من المؤلفات التي لا يمكن أن تصطدم بالأغراض الإمبراطورية إلا من ناحية أنها ثقافة عامة قد تحدث عطشا إلى القراءة والدراسة، وعندئذ يعدو تأليف الكتب تجارة رابحة يقبل عليها القراء فيحترفها المفكرون.
وقد جهلنا النزعات الجديدة بسبب هذه الأمية التي شملت الشعب، حتى لو أن أحدنا نقل إلى العربية كتابا حديثا عن نظرية التطور أو الحركة الاشتراكية أو النزعات الفنية الجديدة أو التحليل النفسي؛ لما استطاع أن يؤدي المعاني في دقة باللغة العربية لقلة ألفتنا لهذه الموضوعات أو لأننا لم نألفها بتاتا؛ ولذلك نحن من ناحية التفكير العصري في جهل بل في غيبوبة نفسية أو ذهنية.
Неизвестная страница