ذلك هو المعنى الحقيقي لمذهب الوحدة في مدرسة إيليا التي طالما حجب من نورها وصغر من قدرها على نسب غير مضبوطة، وما الوحدة الإيلية إلا الله طلبوا معرفته يتلمسونها بين حجب الجهالة الأولى ويدرسونها، كما يمكن أن تدرس في تلك الأزمان؛ إذ العلم والمشاهدة العلمية لا يزالان في بدايتهما. فلم تكن تلك الوحدة قد وصلت بعد إلى ما قرره أنكساغوراس من الإدراك الإلهي ولا ما قرره سقراط وأفلاطون من العناية الربانية. غير أن تقرير تلك الوحدة مع ذلك كان الجرثومة الأولى لكل هذه المذاهب. ومهما يكن من صدق الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى المذهب الذي يرأسه إكسينوفان، فلا شك في أن تلك التوجيهات السليمة هي التي آتته عظمته وخطره في تاريخ الفلسفة.
أقف عند هذا الحد وألخص بيان أوفى تلك المعاني التي جئت على إيضاحها بشيء من الضبط ربما كان أقل مما كنت أريد.
قد ظهر لي أن مجيء الفلسفة إلى عالمنا الغربي حادثة من الخطر بحيث أردت أن أحيطها بكل ما يجلو خفاءها معتمدا في ذلك على استجواب التاريخ عن الأمم وعن الظروف التي اعتورت هذه الحادثة. ومما ينبغي التنبيه إليه أن هذه الحادثة إنما كانت من احتكاك أوروبا بآسيا، وإن كان ذلك قد حصل من قبل في حرب طروادة إلا أن ظروف هذه الحرب مطروحة جانبا لأنها خرافية أو لقلة العلم بها، ذلك الاختلاط حصل في بقعة من الأرض ليس فيها من السعة إلا بمقدار ما يلزم لتحرك الجاليات الإغريقية وفي عصر يعتبر نسبيا عصر توحش، ولكنه كان مملوءا بالخصب الذي لم يتجدد بعد من وقتئذ إلى الآن. على ذلك كانت آسيا الصغرى هي السابقة على آتينا التي فاقتها من بعض الوجوه، كما يشهد بذلك هوميروس، ولكن آسيا التي حملت بهذا الأصل العجيب تحت تأثير أمم غريبة عنه لم تستطع تعهده وإنماءه، فعاد منها يستكمل قوته وكماله إلى الأرض العتيقة التي كان قد خرج منها منذ خمسة أو ستة قرون.
ولقد تصديت فوق ذلك لتبيين أن العبقرية الإغريقية هي التي دانت العالم بهذا النفع العلمي الجليل دون أن تكون مدينة فيه لغيرها، فإذا كانت الشعوب المجاورة لها آتتها شيئا من العلم فما هو إلا مدد مبهم غاية في الإبهام. لا مراء في أن المصريين والكلدان والهنود لهم في ماضي الإنسانية مقام كبير، ولكنهم مع ذلك في الفلسفة أو في العلم بعبارة أعم ليسوا شيئا مذكورا في جانب الإغريق الذين لم يكونوا ليتعلموا منهم. ولقد أثبتت مقارنة اللغات في أيامنا هذه أن لغة الإلياذة ولغة الفيدا كانتا في الأصل لغة واحدة، وأن اللسان الإغريقي والسنسكريت أخوان ولدتهما أم واحدة، ولكنه إذا كان الأصل الذي اطرح في أزمان ما قبل التاريخ واحدا، فإن ما قدر على الأخوين كان مختلفا جد الاختلاف؛ لأن العالم الإغريقي قد أنتج الآداب والعلوم والفنون التي ننسج الآن على منوالها، وشاطر بحظ عظيم في تقدم المدنية المسيحية حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، في حين أن العالم الهندي ما أنتج إلا البرهمانية والبوذية، فهو نازل عنا بمراحل على الرغم من المزايا المتعددة التي يكون من الظلم عدم الاعتراف له بها.
بين العالم الإغريقي وبين العالم الهندي تأتي بلاد فارس التي توسطت بين العالمين في المكان كما هي في الزمان، ولكنها لم تشغل مركزا يذكر لها، ولم تستفد منها الإغريق إلا المجد الخالد الذي أحرزه أمثال ملتياد وليونيداس وطيمستوكل والإسكندر.
ومع ذلك فإن الهند وفارس وإغريقا ومصر ويهودة نفسها، مهما كانت الفروق بينها في المعقولات، كلها هي الخمسة فروع متفرعة عن جنس واحد؛ فإن علم أنساب الشعوب ووصفها الذي لا ينبغي أن يكون له أهمية عظمى في هذه الأبحاث، لكنه مع ذلك لا ينبغي أن يغفل أمره فيها قطعا، هذا العلم قد كشف الغطاء عن مشابهة تامة بين هذه الشعوب منطوية تحت فروق في الأخلاق وفي العقل وفي اللغة، وهذا الجنس الرفيع الذي يجمع الخمسة الشعوب المذكورة هو ما يسمونه بالجنس الهندي القوقازي.
وإن الأمم السامية نفسها متفرعة منه أيضا كالأخرى، وإن كانت قابلياتها تخالف قابليات الأخرى على الإطلاق، فهي قوية فيما يتعلق بالدين عقيمة فيما عداه تقريبا، ولكن في هذه العائلة الكبرى الجميلة التي كأنها احتكرت لنفسها الذكاء الحقيقي يقف الإغريق بجملتهم في صفها الأول. وحينما كانوا يسمون من عداهم بالمتوحشين لم تكن كبرياؤهم بالغة في السوء الحد الذي كان يظن بهم.
ومع أنه كان خيرا أن يكونوا أكثر تواضعا، فإن الهلين المدفوعين إلى هذه الكبرياء بدواعي غرائزهم الصادقة لم يكونوا مخدوعين على شرف مقامهم أكثر مما ينبغي. والآن ونحن في وسعنا أن نحكم حكما خلوا من الغرض نقول إنهم أحق من سواهم بقصب السبق. ومهما يكن من حال المستقبل فليس من الهين عليه أن ينزعهم من هذا المقام. أما أنا فلست أتردد في إسناد هذا المجد إليهم، مع أني لا أنكر ما كان لمنافسيهم من العظمة، بل من التفوق في بعض الوجوه، ولكن من الذي يمكننا أن نضعه في حلبة المجد في مستوى فوق مستوى الهلين وقد جاءونا يقدمون بين يدي دعواهم الشعر والآداب والفنون والعلوم والفلسفة والتاريخ؟
ولقد بينت - على مهد الفلسفة الناشئة - مقام مدرسة إيليا وما لإكسينوفان وميليسوس من الأهلية الخاصة بين طاليس وفيثاغورث.
ينبغي أن نكرر أن كل ما نسرده من هذه الحوادث التاريخية إنما هو تاريخنا، ولو كان منذ خمسة وعشرين أو منذ ثلاثين قرنا؛ ذلك بأننا أبناء الإغريق، ولولاهم لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه؛ فإن إغريقا هي التي علمت روما، وبواسطة روما وإغريقا فتحت المسيحية بلادنا ومدنتنا بعد أن انتفعت بكل ما تقدمها ومهد لها السبيل. وإن العلم على جميع صوره كان معدوما في الشرق، فاخترعه الإغريق ونقلوه إلينا.
Неизвестная страница