وهو أيضا ورغم نقده للعولمة إلا أنه يرى أنها حتمية مثل القضاء والقدر، وأنه لا يمكن مقاومتها، وبالتالي يسود جو من العجز واليأس ثم الاستسلام لهذا الإخطبوط الذي اسمه العولمة، (بالطبع يتم تجاهل المقاومة الشعبية وغيرها من أنواع المقاومة الأخرى).
وقد انتقل هذا الفكر اليائس العاجز إلى النخبة المثقفة في بلاد العالم الثالث؛ الذين يقرءون لفريد جيمسون وغيره من المفكرين الأمريكيين والأوروبيين الماركسيين أو الناقدين للرأسمالية والعولمة.
بالإضافة إلى انتقال هذا العجز واليأس انتقلت إلينا أيضا الثغرات في هذا الفكر، أهمها الفصل بين الاقتصاد والثقافة، والتركيز على الثقافة فقط، أو الهوية أو الخصوصية الثقافية أو الشخصية الأصلية، والأصالة مما يقودنا بالضرورة إلى الأصولية الثقافية ثم الأصولية الدينية، هكذا أصبحت الدعوة إلى الأديان والتقاليد والعادات القديمة لكل شعب هي الوجه الآخر لفلسفة فريد جيمسون وغيره من المفكرين الأمريكيين، الذي ينظر إليهم المفكرون الماركسيون في العالم الثالث وكأنهم جابوا الديب من ديله، أو كأنهم يدافعون عن هويتنا وخصوصيتنا الثقافية، وعاداتنا وتقاليدنا والقيم التي درجنا عليها ولم تلوثها الثقافات الأخرى، خاصة الثقافة الغربية الإباحية التي لا تراعي الأخلاق.
من هنا نرى بعض المفكرين المتقدمين في بلادنا الذين يعارضون الأمركة والرأسمالية والعولمة، إلا أنهم يتمسكون بالتقاليد القديمة، ومنها بل وعلى رأسها حجاب المرأة وختانها وعودتها إلى البيت والأمومة.
وقد تبع هذا الفكر بعض المفكرات النسويات في الغرب واللائي نادين بتحرير النساء في بلادهن، إلا أنهن تحت اسم احترام الهوية والأصالة والخصوصية الثقافية لكل بلد فقد أيدن ختان النساء وحجابهن في بلادنا، وقد كان يؤيد هؤلاء المستشرقات عدد غير قليل من المفكرين الرجال والنساء في بلادنا. (2) الهوية المصرية الأصلية
باسم الهوية المصرية الأصلية ارتد كثير من المفكرين المتقدمين في بلادنا إلى الماضي والتراث القديم كمحاولة لمقاومة ما سمي الغزو الثقافي الغربي، ولم يميزوا بين القديم الإيجابي وبين القديم السلبي، والذي يسلب نصف المجتمع حقوقهن الإنسانية الأساسية، وغيرهن من الشرائح الضعيفة سياسيا واقتصاديا في المجتمع.
كانت هذه الردة محاولة لحماية الهوية أو الثقافة القديمة من التفكك تحت زحف الثقافة الأمريكية الإمبريالية، وقيمها الاستهلاكية وأفلامها الرخيصة القائمة على الجنس والجريمة، وهذا أمر طيب وضروري، ولكن المشكلة أن العودة إلى القديم لم تشمل إلا سلبيات القديم أو سلبيات التراث، وليس الإيجابيات القائمة على العدالة والمساواة بين الناس بصرف النظر عن دينهم أو جنسهم أو طبقتهم أو عقيدتهم إلخ ... بل قامت الردة على التفرقة بين الناس على هذه الأسس، وشهدنا الانتكاسة في حقوق النساء والطبقات الأدنى في المجتمع، وازدادت الهوة بين الأثرياء والفقراء بمثل ما ازدادت بين الجنسين.
وقع المفكرون في بلادنا المعجبين بأفكار فريد جيمسون وأمثاله في تناقض جديد تحت اسم الهوية المصرية والحفاظ على الخصوصية الثقافية، وذلك لأنهم نقلوا الفكرة النظرية المجردة عن الآخرين دون دراسة متعمقة للتراث أو القديم، وكأنما هذا القديم كلية وطنية مقدسة ثابتة وتعامل مع الطبيعة والجسد الإنساني والمجتمع البشري على نحو لا يتغير ولا يتفاعل مع غيره من القيم والثقافات الأخرى، كأنما النظام الثقافي والقيمي كتلة لا تتفكك ولا تتغير، وإن تفككت أو تغيرت فإنه لا يمكن استعادتها بشكل آخر أكثر تقدما أو أكثر عدالة ومساواة بين الناس.
إن العادات والتقاليد والقيم والهوية والثقافة كلها خاضعة للتغير والتطور مع حركة المجتمع إلى الأمام ومزيد من العدالة والحرية، أو إلى الوراء ومزيد من التفرقة بين الناس على أساس الجنس أو الدين أو الطبقة أو العرق إلخ ... إن الحفاظ على القيم القديمة لا يعني الحفاظ على نسيج المجتمع الذي غزله عبر التاريخ كما يقول فريد جيمسون وغيره من المدافعين عن هويتنا؛ لأن هويتنا ليست ثابتة وليست أحادية بل متعددة الأبعاد، وثقافتنا المصرية ليست أحادية وليست نقية غير مخصبة بثقافات أخرى عربية وأفريقية وآسيوية وأوروبية وغيرها، وكأنما الحفاظ على نسيج الأمة المصرية يعني العودة إلى جزء فقط من التاريخ هو التاريخ العبودي أو التاريخ الطبقي الأبوي، الذي قسم الناس إلى الأسياد الملاك والعمال الأجراء وإلى نساء ورجال، أو إلى التاريخ الديني الذي فرق بين الناس على أساس الدين. (3) العودة إلى الأصوليات
كان من نتيجة ذلك هذه الردة إلى الأصوليات الدينية والعرقية، وما أدت إليه من حروب دينية وطائفية قتل فيها الملايين من النساء والرجال، خاصة الفقراء من العالم الثالث، فالعودة إلى القديم والتراث والتاريخ تعني عند إسرائيل العودة إلى نصوص التوراة ومنها نص الأرض الموعودة، وإبادة الشعب الفلسطيني تنفيذا لأمر الله، والعودة إلى التراث عند بعض التيارات الإسلامية؛ يعني تحجيب النساء وإطلاق اللحى وارتداء الجلباب والتفرقة بين المسلمين والأقباط وقتل السائحين الأجانب.
Неизвестная страница