وتساءل بينه وبين نفسه: لماذا سرق مدحت بك عبد الحميد، وكان يملك عربتين وعمارة وليس له إلا ولدان، لعله مرض أعوذ بالله، أو لعله العين الفارغة التي لا يملؤها إلا التراب.
وسمع الأصوات من حوله تخفت، ورفع رأسه ورأى رأس الأبيض يتحرك، واليد البضة الناعمة تمسك القلم وتكتب القرار الأخير، مدحت عبد الحميد بريء، وتعلقت عيناه بسن القلم، وفتح شفتيه كأنه يلهث، وسمع صوته كحشرجة: «لحظة واحدة يا أفندم.»
وتراجعت الظهور السميكة في استرخاء إلى مساند المقاعد الجلدية، وارتسمت حول الشفاه الندية دوائر كالابتسامات.
ووضع يده في جيبه وأخرج منديله وجفف عرقه، وسمع صوتا غليظا مألوفا يقول: «اكتب عليه: نظر ويحفظ.»
العطش
أرض الشارع الإسمنت تلين تحت قدميها من شدة حرارة الشمس، تلسعها كقطعة حديد منصهرة، فتقفز هنا وهناك، تتخبط كفراشة صغيرة تصطدم بلا وعي بجدران لمبة النور الحارقة، وكان يمكن أن تنحرف إلى الظل في جانب الطريق، وتجلس بعض الوقت على التراب الرطب، ولكن سبت الخضار معلق في ذراعها، ويدها اليمنى مطبقة على ورقة مهلهلة من ذات الخمسين قرشا، تردد بينها وبين نفسها الأشياء التي ستشتريها من السوق كي تحفظها: «نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين قرش، كيلو كوسة بخمسة صاغ، كيلو طماطم بسبعة صاغ، والباقي ثلاثة قروش. نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين، كيلو كوسة بخمسة صاغ، كيلو طماطم بسبعة صاغ، والباقي ثلاثة قروش. نص كيلو لحم ب ...»
وكان يمكن أن تستمر في العد حتى تصل إلى السوق كالمعتاد كل يوم، ولكن عينيها لمحتا فجأة شيئا غريبا، شيئا لم يخطر على بالها قط، وتغلب الدهشة على سخونة الأرض فوقفت تحملق، عيناها مفتوحتان وشفتاها متدليتان، كانت هناك حميدة بلحمها ودمها، تقف أمام الكشك وفي يدها زجاجة كازوزة مثلجة، ترفعها إلى فمها وتشرب منها.
لأول لحظة لم تعرف أنها حميدة، كانت تراها من الخلف وهي واقفة أمام الكشك ولم تتصور أنها حميدة، قد تكون إحدى البنات اللاتي تراهن كل يوم أمام الكشك يشربن الكازوزة، البنات أولاد الناس، اللاتي يلعبن بالكرة والحبل، ويذهبن إلى المدرسة ولا يشتغلن في البيوت، مثل سعاد ومنى وأمل ومرفت وكل صديقات ستها الصغيرة سهير.
كانت تظن أنها إحدى هؤلاء البنات، وكانت ستمضي في طريقها، ولكنها لمحت سبت الخضار، لمحته وهو يتدلى من ذراعها وهي واقفة أمام الكشك، ولم تصدق عينيها فدققت النظر ورأت خصلات شعرها الأكرت تتدلى على قفاها من تحت المنديل الأبيض، هذا هو منديل رأس حميدة، وهذه هي ذراعها يتدلى منها سبت الخضار، ولكن أيمكن أن تكون حميدة حقا؟
وأخذت تفحصها من الخلف فحصا دقيقا، ورأت كعبيها المتشققين يبرزان من الشبشب البلاستيك الأخضر، هذا هو شبشب حميدة الأخضر وكعباها، ورغم كل ذلك لم تستطع أن تصدق، وأخذت تفحصها من جميع الزوايا: من الشمال ومن اليمين، وفي كل مرة ترى شيئا لا يمكن أن يكون إلا لحميدة التي تعرفها: الجلباب التيل الأصفر وفيه شق صغير من الجنب فوق فخذها اليسرى، وفردة الحلق المصدية في أذنها اليمنى، والجرح العميق القديم على صدغها الأيمن، هي حميدة إذن بعينها، بلحمها ودمها، وليست بنتا أخرى بأي حال من الأحوال، ووقفت تتأملها أكثر .
Неизвестная страница