Сколько лет гневу? Структура и кризис арабского ума
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Жанры
ولكي يزداد موقفي وضوحا، فإني أود أن أعلن منذ البداية أنني أؤيد هيكل في الكثير مما قال، ولكنني أستنتج من كل ما قاله أمورا مختلفة كل الاختلاف، تجعلني معارضا لاتجاهاته العامة في معظم الأحيان، ولست أود أن يستنتج الساداتيون من معارضتي لاتجاهات هيكل أنني أقف معهم على أي أرض مشتركة، بل إنني أرفض على نحو قاطع أية محاولة منهم لاستغلال انتقاداتي لهيكل من أجل دعم موقفهم؛ فأنا، بلا مواربة، معارض للساداتية بكل قوة، ولكن هذا لا يعني أنني أنحاز إلى الطرف الآخر في الاستقطاب السائد في هذه الأيام، بل إنني أكتب من منظور أوسع من هذا الاستقطاب بكثير، ولا أقبل أن يجرني أحد إلى طرف من أطرافه.
إن هيكل يقوم في هذا الكتاب بمحاولة مستحيلة، هي أن يقتطع عهدا من سياقه الكامل، ويعزله عن سوابقه، وأية نظرة مدققة إلى تاريخ العقود الثلاثة الأخيرة في مصر، تقنعنا باستحالة فصل قطعة من هذا التاريخ عن مقدماتها الضرورية. فلنسلم منذ البدء بأن لكل نظام في الحكم شكلا وموضوعا، أما المضمون فهو اتجاه السياسات التي يتبعها، وأما الشكل فهو الأسلوب الذي يطبقه من أجل تنفيذ هذه السياسات، وإذا كان من المسلم به أن مضمون العهد الساداتي مختلف اختلافا كبيرا عن مضمون العهد الناصري، فإن من الحقائق التي ينبغي ألا تغيب عن الأذهان أن «شكل» الحكم، أي أسلوبه، كان متشابها إلى حد كبير وبعيد طوال ثورة 23 يوليو، ويحمل معظم ملامحه الأصلية حتى اليوم. ولقد تحدث هيكل أساسا عن الاختلاف - الذي ينبغي الاعتراف به - بين الاتجاهات السياسية عند عبد الناصر والسادات، ولكنه كاد أن يغفل تماما الحديث عن التشابه بين أسلوب الحكم في كلا العهدين، وفي هذا الجانب الأخير يعد السادات امتدادا لمنهج في الحكم أرست قواعده ثورة 23 يوليو، ويجوز أنه أضاف إليه اجتهاداته «وابتكاراته» الخاصة هنا أو هناك، ولكن جوهر الأسلوب واحد من البداية إلى النهاية، وأعني به الحكم الفردي الذي يؤمن بحقيقة واحدة، هي ما يعبر عنه الحاكم، ويقمع كل ما عداها.
وهكذا فإن كل إشارات هيكل إلى أخطاء ممارسات الحكم الساداتية قد تكون صائبة، ولكن الأمر الذي يغفله هو أن من المستحيل فصل النتيجة عن السبب، وأن الصورة تكون ناقصة نقصا خطيرا، لو اكتفينا بمظهرها الأخير وتجاهلنا امتداداتها السابقة. ومجمل القول أن هيكل كان على حق عندما كشف العيوب الخطيرة للنظام الساداتي، ولكنه كان مقصرا تقصيرا مخلا حين عزل هذا النظام عن سياقه، ولم ينظر إليه على أنه جزء من ظاهرة أوسع منه بكثير - مع اعترافنا الكامل بأن هذه الظاهرة بلغت قمتها المأساوية في العهد الساداتي على وجه التحديد.
أما الخطأ الرئيسي الثاني الذي اتسم به موقف هيكل، والذي يعد بدون مبالغة عرضا من أعراض مرض أوسع نطاقا، فهو أنه استثنى نفسه تماما من اللوم، وصب اتهاماته على الغير، وكأنه كان طوال الوقت مشاهدا محايدا، أو ناصحا أمينا لا يستمع إليه أحد. ولقد بحثت طوال الصفحات التي قاربت الستمائة في كتاب هيكل، عن سطر واحد من النقد الذاتي، فلم أجد، وكان أقصى ما قاله عن نفسه هو أنه تصور أن السادات سيفعل كذا أو كذا ولكن تصوراته لم تتحقق، ويكون المعنى الضمني دائما هو أن الخطأ في عدم تحققها، يرجع إلى أن الطرف الآخر لم يستمع إلى نصحه، أو لم يفعل ما كان هيكل يأمل أن يفعله. وكل من عاش هذه الفترة وتابعها بوعي، ولم يفقد ذاكرته تحت وطأة الدعايات المتلاحقة، التي تتخذ كل يوم موقفا مناقضا لليوم السابق، يعلم حق العلم أن هيكل كان جزءا لا يتجزأ من معظم الأخطاء التي يعيبها على السادات، وأن دوره قد بلغ ذروة التأثير في سنوات التكوين الأولى، التي تشكلت فيها معالم السياسة الساداتية الجديدة، والتي ترجع إليها معظم التطورات اللاحقة. هذه حقيقة لا بد أن يثبتها التاريخ على نحو قاطع، ومع ذلك فإن من يبحث عند هيكل عن كلمة واحدة تعبر عن تأنيب الضمير أو مراجعة النفس، أو نقد الذات على ممارسات غرست البذرة الأولى والأساسية للشجرة، التي نمت معوجة فيما بعد، سيكون بحثه قد ضاع هباء.
عند هذه النقطة لا يملك المرء إلا أن يتساءل: ما الذي أتاح لهيكل كل هذه الفرصة التي مكنته من أن يوجه نقدا موجعا للعهد الساداتي، إذا كان هو ذاته قد أعطى هذا العهد، بجهوده الواعية والمتعمدة، معالمه الأولى التي حددت قسماته وملامحه لوقت طويل فيما بعد؟ هنا لا يملك المرء إلا أن يفكر مليا في قول هيكل، في مستهل كتابه، إن فكرة الكتاب قد طرأت على ذهنه، منذ اللحظة الأولى لدخوله المعتقل في سبتمبر 1981م، ثم قوله في الفصول الأخيرة من الكتاب، إنه لم يكن يتصور أن السادات سيقدم على اعتقاله، على الرغم من كل ما بينهما من خلافات.
لقد كان لدى هيكل سلاح جبار يخشاه الجميع، وهذا السلاح هو الذي جعله واثقا من أنه لن يعتقل، فلما تجاوز السادات الحد، في لحظة يأس لم يترك فيها اتجاها من اتجاهات الفكر والسياسة والعقيدة في مصر إلا واعتقل أهم ممثليه، قرر هيكل أن يصوب إلى السادات طلقات سلاحه الجبار: الأرشيف.
لقد كان هذا السلاح، منذ البداية، نتاجا لظاهرة الحكم الفردي التي ازدهر في ظلها هيكل، فمن خلال صلته الوثيقة بعبد الناصر، كانت الأسرار والوثائق الخطيرة تأتيه وحده دون غيره، وكان هو ذاته يحرص على تسجيل كل صغيرة وكبيرة تدور حوله، مدركا بذكاء أن كل كلمة تسجل، يمكن أن تكون مصدر قوة له في يوم من الأيام.
ولم تكن البراعة الصحفية وحدها، ولا الذكاء الشخصي وحده، هما اللذان أتاحا له هذه الفرص، بل إن انعدام الديمقراطية وسيادة جو التكتم والقرار الفردي المفاجئ، جعل من الضروري أن يضيق نطاق المطلعين على الأسرار إلى أبعد حد. وهكذا اطلع هيكل على ما لم يكن متاحا للآخرين، أو مطروحا على الناس، وهداه ذكاؤه إلى أن يسجل أولا بأول كل ما هو «خفي» و«ممنوع». ومنذ أن تبين له أن الناس يتلهفون على قراءة الأسرار، التي لا يعرفها أحد صباح يوم الجمعة، أدرك هيكل أهمية «سلاح الأرشيف» من حيث هو مصدر قوة وحماية له في نفس الوقت.
بل إن أحد الكتاب الساداتيين، ممن كانوا على صلة وثيقة بهيكل،
1
Неизвестная страница