Сколько лет гневу? Структура и кризис арабского ума
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Жанры
هكذا تصرف هيكل في واقعة أخرى ورد ذكرها في مقال سابق، هي واقعة اعتقال أجهزة عبد الناصر لزميل له في «الأهرام»، فقد ثار ثورة فردية؛ لأن الموضوع مس كرامته وسلامة المقربين منه، أما المبدأ العام؛ مبدأ عدم جواز اعتقال البشر بلا سبب، وبلا محاكمة، فلم يتطرق إليه من قريب أو بعيد.
ومثل هذا ينطبق على موقفه من اعتقاله في آخر أيام السادات؛ فقد تحدث عن «محنته» الشخصية ولم يذكره السجن بألوف الضحايا الذين سجنوا قبله في «جرائم» الرأي أو العقيدة، فلم يقل كلمة واحدة عن مساوئ الاعتقال بوجه عام، ولم يسهم برأي واحد من أجل ضمان الحريات الشخصية للجميع على حد سواء.
وعلى العكس من ذلك، فإن هيكل اكتسب جزءا كبيرا من مجده، بفضل هذه الديمقراطية التي كان يتمتع بها وحده، في الوقت الذي يختنق فيه الآخرون، وكم من آراء كان يعرضها، طوال الوقت الذي كان فيه هو وحده المتحرر من الرقابة، كان من الممكن نقدها وتفنيدها وهدمها بسهولة تامة، لو أتيحت فرصة مماثلة للكتاب المعارضين! وكم من «نظرية» جادت بها قريحته، أو «تبرير» من نتاج عبقريته، كان من الممكن إثبات تفاهته بيسر، لو كان الناس قادرين على المناقشة الحرة! غير أنه ظل وحده في الميدان، مستمتعا بانتصاره على خصم مغلول الأيدي، وظل يغزو عقول الناس صباح كل جمعة، دون منافس أو معترض. والحق أن أي مفكر حقيقي يستحيل أن يقبل لنفسه هذا الاحتكار الفكري، أو أن يخطو خطوة واحدة في حلبة هذا الصراع غير المتكافئ؛ فهو لا يرضى لنفسه بأن يعلو صوته، بينما الأصوات الأخرى مكتومة، أو بأن يتفلسف شاهرا سيفه على أفواه مكممة وألسنة مربوطة. ومجرد قبول هيكل بهذا الوضع، وإصراره على أن يحقق لنفسه، هو وحده، مثل هذه الحقوق الديمقراطية، يدل على أنه في صميمه بعيد كل البعد عن الديمقراطية.
أيريد القارئ مثلا آخر، قبل أن ننتقل إلى النقطة التالية؟ إن هيكل يشير، في الفصل الخامس، وفي معرض التفاخر كما هي العادة، إلى أن عبد الناصر كان يبدأ دائما بسؤاله عن رأيه في الموضوع الذي يناقش؛ لأنه كان يتكلم بغير حرج، «وكان يشك في أن بعض الآخرين عادة، يحومون حول الموضوع حتى يتعرفوا على رأيه (رأي عبد الناصر) فيه، ثم يسبقوه إلى ما يتصورون أنه يريده.»
هذه هي النتيجة المأساوية للدكتاتورية: الخوف، النفاق، تملق الزعيم والاستجابة لرغباته بدلا من تحقيق مصلحة المجتمع، الامتناع عن المعارضة، وفي مقابل ذلك، شجاعة المتكلم الأوحد، الذي يستطيع هو وحده أن يتكلم «بغير حرج»، هل هذا أسلوب في الحكم يمكن أن يقيم ثورة أو يبني مستقبلا أو يكون رجالا؟
ومع ذلك فإن الموضوع يمر على هيكل، كما هي العادة، دون أن يتنبه إلى أن ما يعتقد أنه سبب للفخر، هو في الحقيقة أمر مؤسف ومخجل، فهل من تعليل لعدم التنبه الدائم هذا؟ إنه بالقطع ليس نقصا في القدرة على الفهم والتحليل، وإنما هو ببساطة، اعتياد على العيش في جو الحكم الفردي والاستمتاع بمزاياه الشخصية، يؤدي في النهاية إلى أن تصبح أكثر جوانب السلوك بشاعة؛ أمورا عادية، مألوفة، ليس فيها أي خطأ ...
المبدأ الثالث: الوطنية بأثر رجعي
أسهل أنواع الكفاح وأقلها تكلفة هو أن تكافح بعد فوات الأوان، بينما تظل متفرجا، أو تتواطأ، عندما تكون الأحداث ساخنة، يمكن التأثير عليها وتغييرها إلى الأفضل، فبهذا اللون من الكفاح بعد فوات الأوان، تبدو أمام الناس وطنيا، مع أنك لم تفعل شيئا.
وفي حالة هيكل لم يقتصر الأمر على الكفاح بأثر رجعي ضد سياسات كان أثناء حدوثها متفرجا، بل إنه كافح بعد فوات الأوان ضد سياسات كان هو نفسه قد أسهم بنصيب كبير في صنعها، ومثل هذا الكفاح ليس سهلا قليل التكلفة فحسب، بل هو أيضا كفاح خادع، إذا شئت أن أستخدم أخف الألفاظ.
وسنضرب لهذا الأسلوب في الكفاح، وفي إظهار الوطنية، بضعة أمثلة قد لا تحتاج إلى شرح مفصل؛ لأنها سبق أن عرضت بتوسع من قبل، فكل ما يقوله هيكل الآن عن الافتقار إلى الديمقراطية وانتهاك الدستور والقوانين الاستثنائية ... إلخ هو كفاح بأثر رجعي؛ لأنه لم يكن يدعو إليه في الوقت المناسب، بل نادى به - فقط - بعد أن كان كل شيء قد انتهى. وكما رأيناه من قبل، فقد كان لهيكل دور هام في تهيئة الأذهان لطرد الخبراء السوفييت والتشكيك في قيمة أسلحتهم، وكذلك في الدعوة إلى تحييد أمريكا. وبعد أن تحقق ما كان يدعو إليه، ثم استخلص النظام الحاكم نتائجه الطبيعية منه، عاد هيكل فنعى على السادات تعاونه مع الأمريكان وتجاهله للسوفييت ... ومتى حدث ذلك؟ بعد أن أصبح إصلاح الأمر مستحيلا، وفرض الأمر الواقع الجديد نفسه على الجميع، أما في الوقت الذي كان من الممكن فيه تدارك الأمر، فإن كتابته كانت تسير في الاتجاه العكسي.
Неизвестная страница