Сколько лет гневу? Структура и кризис арабского ума
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Жанры
عمنا سام
لست أدري لم اختار هيكل أن يوجه كتابه عن السادات إلى الجمهور الأمريكي على وجه التحديد، ولكن الأمر المؤكد هو أنه، طوال هذا الكتاب، كان يضع في ذهنه هذا الجمهور، وهو يشرح هذه النقطة أو تلك، ويقوم بهذا التحليل أو ذاك؛ مما أعطى الكتاب، في مواضع غير قليلة، طابعا غير مألوف لدى القارئ العربي.
فمنذ اللحظة الأولى، يركز هيكل على صفة «النجومية»، وعلى «صناعة النجم»، وكأنها هي التي تلخص شخصية السادات، مع أنها - من وجهة نظر كاتب هذه السطور - لا تزيد عن كونها أسلوبا ملائما لجمهور أجنبي، اعتاد التهريج السينمائي حتى أصبحت صفة «النجومية» أساسية عنده، حتى في اختياره لرئيس جمهوريته، وهكذا يتحدث «خريف الغضب» في مقدمته عن نجوم العصر، فيضع ضمنهم «جاكلين كيندي»، ويشعر القارئ العربي بأنه تلقى لطمة، وهو يقرأ عن هذه النماذج المنحلة، وإن كان القارئ الأمريكي لا يرى أية غرابة في ذلك، والواقع أن السادات لم يكن في وقت من الأوقات نجما بالنسبة إلى شعبه، أعني المصريين والعرب على حد سواء، بل كان نجما في نظر الأمريكان وبعض الأوروبيين؛ وذلك لأسباب لا علاقة لها بشخصه، وإنما بسياسته.
إننا نعلم جميعا أن أجهزة الإعلام الغربية، والأمريكية بوجه خاص، قد تعمدت أن تضخم صورة السادات، ولم يكن ذلك راجعا فقط إلى إعجاب هذه الأجهزة بذلك الصديق المخلص الجديد، أو إلى صفات معينة في شخصيته، أهلته لكي يكون في نظرها «نجما»، وإنما كان يرجع قبل كل شيء إلى رغبتهم في الحصول منه على المزيد من التنازلات، عن طريق خدعة الإعجاب الإعلامي الزائد؛ فقد كان من الواضح أن لدى السادات، شأنه شأن معظم الحكام الفرديين، وربما بصورة أشد تطرفا من الباقين؛ ميلا شديدا إلى الإحساس بأهميته وخطورته، وكان ذلك يتجلى بوضوح حين تنشر الصحف المصرية، على الدوام، تعليقات الصحف والإذاعات الأخرى على خطاباته؛ لكي تبين مدى إعجاب الآخرين به. وقد أتقن الأمريكيون فن دراسة نقط الضعف في شخصيات الزعماء، وخاصة في العالم الثالث، للاستفادة من نقاط الضعف هذه بقدر ما يستطيعون. وهكذا كان كل مقال يكتب عن السادات في صحيفة أمريكية، وكل صورة له أو لأسرته، على غلاف مجلة أمريكية، تعني مزيدا من التنازلات، ومزيدا من الترحيب بالنفوذ الأمريكي، ومزيدا من الامتيازات الاقتصادية أو العسكرية التي تمنح للغرب بوجه عام.
لم تكن المسألة إذن مسألة «نجومية»، وإنما كانت «صناعة النجم» هذه، في حقيقتها، استغفالا واستغلالا لغرور حكام العالم الثالث، ومع ذلك فإن هيكل أراد في كتابه أن يصحح فكرة الجمهور الأمريكي عن «معبوده» الجديد، وأن يرسم له الصورة التي يعتقد أنها حقيقية، في مقابل الصورة المتطرفة في الإعجاب، التي صورتها أجهزة الإعلام الأمريكية للسادات. ولكن، ما الذي يدعونا إلى تصحيح فكرة المجتمع أو الرأي العام الأمريكي عن السادات؟ وما الذي سنجنيه من ذلك؟ إن أمريكا هي العدو الأول لأماني الشعب العربي وتطلعاته ، فلماذا نجهد أنفسنا لكي نقدم إليها الصورة الصحيحة، إن كانت بالفعل صحيحة؟ لماذا لم يوجه الكتاب، مثلا، إلى المعسكر الاشتراكي، أو إلى العالم الثالث، أو إلى الشعب العربي، ولماذا يحرص المؤلف منذ الصفحات الأولى على أن يؤكد أن صورة السادات عند الغرب لم يكن لها ما يبررها؟ ألا يزال عندنا نوع من «الأمل» في أمريكا حتى نتعشم منها خيرا عندما تصحح فكرتها عن زعمائنا؟
إن دور النشر الأمريكية أقدر من غيرها على ترويج الكتب، هذا صحيح، ولكن هناك فارقا بين كتاب ينشر في دار أمريكية، وكتاب يؤلف من وجهة نظر تستهدف مخاطبة الجمهور الأمريكي، وأعتقد أن اهتمام هيكل بمحور «الممثل» و«النجم»، وبالعوامل والعقد النفسية في النشأة الأولى، واستخدام تشبيه «ترومان» لتبرير تعاونه مع السادات في السنوات الأولى من حكمه، كل ذلك يدل على أن هيكل كان يخاطب في الأساس جمهورا أمريكيا ولم يكن ينشر في دار أمريكية فحسب.
على أن الهدف الذي كان يرمي إليه هيكل من هذا كله هدف عقيم؛ فمن العبث أن يحاول أي مؤلف تصحيح صورة حاكم، أعجب به الجمهور الأمريكي لأسباب لا علاقة لها، في الواقع، بشخصه أو مسلكه؛ إن ما يهم أمريكا، شعبا وحكومة وصحافة وإعلاما، هو المصالح، وليس خفة دم هذا الحاكم أو طيبة قلب ذاك، ومن الممكن بالفعل أن يعجب الأمريكيون بحاكم من أجل هذه الصفات الشخصية، ولكن «بعد» أن يكون هذا الحاكم قد خدم مصالحهم، أما إذا تعارضت سياسته مع المصالح الأمريكية، فعندئذ لن يشفع له في نظرهم أن يكون في خلقه الشخصي قديسا. وهكذا فإن الأمريكيين لا يكونون صورتهم عن أي زعيم على أساس فضائله الداخلية أو الشخصية، أو حتى طريقته السليمة في الحكم، بل على أساس ما يمكن أن يجنوه منه من فوائد، فالسادات كان معبود الأمريكيين، لا لأن شخصيته كانت محببة لديهم؛ بل لأنه حقق لهم أكثر مما كانوا يحلمون في الشرق الأوسط كله، فأخرج السوفييت من أهم بلد عربي، وفتح الأبواب للأسلحة والخبراء الأمريكيين، وأعطى الاستراتيجية الأمريكية قواعد أو ركائز أو تسهيلات (سمها ما شئت، فالحقيقة واحدة)، وجعل محاربة الشيوعية هدفا له الأولوية المطلقة على مكافحة الصهيونية، وتطرف في تحديد المقصود ب «الشيوعية» حتى أدمج فيها كل حركة وطنية تكافح الاستعمار والاستغلال، أما مسألة ما إذا كان حاكما جيدا أو سيئا، وما إذا كان قادرا على حل مشاكل شعبه أم مشاركا في تخريبه، فهذه مسائل لا تهم الأمريكيين كثيرا، وكم من طاغية في أمريكا اللاتينية، مثلا، كانت فضائحه وجرائمه على ألسنة الناس في العالم أجمع، ومع ذلك كان الأمريكيون معجبين به أشد الإعجاب، ويساعدونه بكل طاقتهم في تثبيت حكمه الإرهابي، كما حدث في حالة سوموزا، وباتستا، وما يحدث حاليا في حالة بينوشيت. وأستطيع أن أقول إن هذا ليس الموقف الرسمي للحكومة الأمريكية وحدها، بل إن الشعب الأمريكي ذاته قد تشكلت عقوله، بحيث يوجه إعجابه بأي حاكم أجنبي في اتجاه مصالحه، لا في اتجاه مصالح البلد الذي يحكمه هذا الحاكم. وهكذا فإن محاولة هيكل أن يفتح عيون الأمريكيين على حقيقة السادات محاولة فاشلة، بل إنها تفترض منذ البداية صفات في الجمهور الأمريكي لا يمكن أن توجد فيه، وهنا لا يملك المرء إلا أن يكرر السؤال الذي بدأنا به هذا المقال: لماذا اختار هيكل الجمهور الأمريكي لكي يوجه إليه حديثه في هذا الكتاب؟
إن المرء يستطيع أن يقول، باطمئنان، إن علاقة هيكل بأمريكا علاقة حميمة، خاصة جدا، فمنذ البداية كانت أمريكا هي الموضوع الرئيسي الذي دار حوله الخلاف بينه وبين الأجنحة الناصرية الأخرى، فضلا عن اليسار بطبيعة الحال، وكان إيمان هيكل بقوة أمريكا وتأثيرها ودورها وعدم إمكان تجاهلها، إيمانا راسخا لا يتزعزع، أما الكتابات التي هاجم فيها أمريكا في السنوات الأخيرة من حكم عبد الناصر، فلا تمثل أي اتجاه دائم لديه، وإنما كان هذا الهجوم ضرورة تكتيكية في ظل الظروف السائدة بعد هزيمة 1967م، وما إن استتب الأمر للسادات، حتى عاد الاتجاه الأمريكي للظهور، وكان التحول الذي طرأ على اتجاه السياسة المصرية نحو أمريكا في عام 1972م، والذي دعا إليه هيكل بحماسة بالغة، هو نقطة البدء الحقيقية في التغلغل الأمريكي في المنطقة العربية كلها، وليس اتفاقية فض الاشتباك، كما يؤكد هيكل باستمرار.
ومما يلفت النظر أن هيكل، في كتابه عن السادات وفي أحاديثه الصحفية عن فترة 1973 و1974م، التي تزايدت بصورة ملموسة في الآونة الأخيرة، لم يذكر شيئا عن حصار الجيش الثالث في الضفة الشرقية للقنال، من حيث هو أحد الأسباب الرئيسية للتوقيع على اتفاقية فصل القوات، أو فض الاشتباك، التي بدأ فيها الخلاف يظهر بين السادات وهيكل؛ ذلك لأن الحصار الكامل الذي فرضته إسرائيل على هذا الجيش، كان هو الأساس الأهم للصفقة التي تمت بين السادات وأمريكا؛ إذ تعهدت هذه الأخيرة بأن تحفظ للسادات ماء وجهه، ولا تسمح لإسرائيل بتجويع الجيش الثالث أو بدفعه إلى الاستسلام، وفي مقابل ذلك اعترف السادات لأمريكا بالجميل، لكي يظل قادرا على القول إن جيوشه كانت في الضفة الشرقية حتى نهاية الحرب، ووقع اتفاقية فض الاشتباك الأولى، وهذه جرت الثانية، كما جرت معها مزيدا من النفوذ لأمريكا في المنطقة، فما سبب تجاهل هيكل لهذا العامل الحاسم، على الرغم من أحاديثه المسهبة حول هذه الفترة؟
لقد تم هذا الحصار وتحقق بمساعدة مباشرة من أمريكا، وكانت الدبابات تنزل من سفن الشحن أو الطائرات الأمريكية إلى ساحة المعركة مباشرة، كما لعبت الأقمار الصناعية ووسائل التجسس الأمريكية دورا أساسيا في تحديد مكان الثغرة التي أدت آخر الأمر إلى هذا الحصار، وهو موضوع شرحه هيكل بالتفصيل في مقالاته التي كتبها عن هذه الفترة، فما الذي جعله يمتنع عن الخوض في هذا الموضوع الحيوي في كتابه الأخير؟ هل يرجع ذلك إلى أنه لم يشأ أن يقول للجمهور الأمريكي، الذي وجه إليه الكتاب، إن الوضع السيئ الذي وجد فيه الجيش الثالث نفسه كان من صنع أمريكا؟ هل يرجع إلى أنه لم يشأ أن يتحدث عن الصفقة التي يمكن أن تكون قد عقدت بين السادات وأمريكا، بحيث يقايض السادات إنقاذ أمريكا له من الكارثة المحلية والفضيحة الدولية المترتبة على خنق الجيش الثالث وإحكام القبضة على عنقه بالتدريج، مقابل إبداء الاستعداد التام لقبول المطالب الأمريكية؟ إننا هنا ندخل منطقة البحار العميقة، التي تمس صميم الصفقات والاتفاقات السرية، والتي يصعب الكلام عنها إلا عن طريق الاستنتاج، ولكن تسلسل الأحداث جاء كما يلي: أخذت السياسة المصرية تتجه منذ عام 1971م، نحو الميل إلى الطرف الأمريكي والابتعاد عن الطرف السوفييتي، وتقدم هيكل بالنظرية التي تقول بإمكان إيقاف فاعلية أمريكا في مساعدتها لإسرائيل، في ظل ظروف وتوازنات دولية معينة، وطبقت هذه السياسة عمليا ، وكانت أهم خطواتها طرد الخبراء السوفييت بطريقة مدوية، ثم قامت حرب أكتوبر، وكانت لدى أمريكا معرفة كاملة بالطبيعة المحدودة لهذه الحرب، في ضوء اتجاهات السياسة المصرية كلها، وفي ضوء كتابات هيكل الصريحة والواضحة حول هذا الموضوع. ولكن السياسة الجديدة التي كان النبي المبشر بها هو هيكل، أتت بنتائج عكسية تماما؛ فبدلا من «تحييد» أمريكا، قامت أمريكا بأعظم وأسرع عملية إنقاذ في التاريخ، زودت فيها إسرائيل عبر جسر جوي جبار بما يكفيها للصمود في وجه الأداء المصري والسوري الممتاز في الأيام الأولى للحرب، ثم الانتقال إلى الهجوم الذي أسفر، في سوريا، عن تهديد دمشق ذاتها، وفي مصر عن ثغرة أخذت تتسع بالتدريج حتى حاصرت الجيش الثالث كله حصارا كاملا، كان هذا الانقلاب في الميزان العسكري من صنع أمريكا في المحل الأول، وعندما أمسكت بكل الخيوط في أيديها، بدأت تحركها كما تشاء، وبدلا من أن تتمكن السياسة المصرية من «تحييدها»، أصبح الجيش الثالث وسمعة مصر وهيبة النظام ورجاله رهينة في أيديها، وبدأ مسلسل توقيع الاتفاقات الاستسلامية.
Неизвестная страница