Сколько лет гневу? Структура и кризис арабского ума
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Жанры
أما تعليل عبد الناصر نفسه، كما رواه لهيكل فيما بعد، فهو «أردت أن أضع في إطار الحركة كل هؤلاء الضباط الذين اقترن اسمهم بالعمل السياسي في مصر.» هنا أيضا نجد أنفسنا غير مقتنعين: هل أي ضابط اقترن اسمه بالعمل السياسي يمكن أن يقبل في التنظيم، حتى لو كان العمل السياسي الذي مارسه عمالة مزدوجة وخدمة لأهداف القصر، أي بكلمة واحدة، حتى لو كان هذا العمل السياسي «خيانة»؟ لو افترضنا أن حاجة التنظيم في بدايته إلى عناصر نشطة وممارسة كانت هي التي أرغمت عبد الناصر على قبول شخصية مثيرة للشبهات كهذه، فإن هذه الحاجة تنتهي تماما بمجرد أن ترسخ أقدام التنظيم ويصبح هو الذي يحكم مصر بلا منازع، ويبدو أن أعضاء مجلس الثورة قد نظروا إلى الأمر على هذا النحو، بدليل قول هيكل إن هؤلاء الأعضاء، بعد يوليو 1952م مباشرة، «تجددت شكوكهم فيه، بل وبدأ معظمهم يوجه إليه في حضوره بعض الملاحظات الجارحة، ولكن عبد الناصر كان يحميه.»
هناك إذن سر في موضوع دخول السادات في تنظيم الضباط الأحرار، واستمرار عضويته فيه بعد أن انتفت الأسباب التي يقال إنها هي التي دعت إلى قبوله، ولا تقدم إلينا رواية هيكل أي تعليل مقنع لهذا السر، بل إنها تترك الموضوع عائما، وتكاد توحي بأن عبد الناصر كان لديه ميل خاص، غير مفهوم إلى السادات، على الرغم من علمه بتاريخه.
تلك إذن لحظة حاسمة في تاريخ السادات، وفي تاريخ ثورة 23 يوليو، تركها هيكل غير مفهومة، فهل كان هيكل يستخف بأهمية هذه اللحظة، حين قدم تعليلاته غير المقنعة، أم كان يخفي شيئا لا يريد أن يعلن عنه، أم كان يستخف بقدرة القارئ على الشك والتساؤل، أم كان - أخيرا - يؤمن بحق عبد الناصر المطلق في أن يفعل ما يشاء بغير أسباب؟
لنترك هذه اللحظة مؤقتا، ولننتقل إلى لحظة أخرى أهم منها بكثير، لحظة كانت مصيرية بحق ، هي تلك التي قرر فيها عبد الناصر أن يعين السادات بالذات، ومن دون أبناء مصر الذين كانوا عندئذ يزيدون على الثلاثين مليونا، ليكون نائبا لرئيس الجمهورية، وخليفته في حكم مصر.
ونستمع، مرة أخرى، إلى ما يقوله هيكل.
في فصل بعنوان «في ظل عبد الناصر»، يقول هيكل: «كان طبيعيا أنه حين تعرض عبد الناصر للنوبة القلبية الأولى في سبتمبر 1969م أن يضع السادات على رأس لجنة تضم بعض القريبين منه، وتتولى تسيير شئون الدولة في غيابه، وعلى أي حال فإن هذه اللجنة لم يقدر لها أن تباشر عملا حقيقيا، فما لبث عبد الناصر أن نسي نوبته القلبية وعاد يمارس شواغله ومسئولياته، وفي ديسمبر عام 1969م كان على عبد الناصر أن يشارك في أعمال مؤتمر القمة العربي في الرباط بالمغرب ... وعندما دعاني إلى الجلوس بجانبه بعد إقلاع الطائرة كما كان يفعل دائما، فإنه أشار إلي بالجلوس وعلى وجهه ابتسامة، وفوجئت به يقول: «هل تعرف ماذا فعلت اليوم؟» ولم أكن أعرف، وقال لي: «كان أنور السادات سيمر علي؛ لكي يصحبني إلى المطار، وطلبت منه أن يجيء معي بمصحفه، ولم يفهم ما عنيت بهذا الطلب، وعندما جاء فقد جعلته يقسم اليمين ليكون نائبا لرئيس الجمهورية في غيابي.» وأبديت دهشتي وسألت عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، ومد عبد الناصر يده إلى ملف كان قد وضعه أمامه، وكانت فيه برقية، تقول إن هناك معلومات بأن الجنرال أوفقير يتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في محاولة لاغتيال عبد الناصر أثناء وجوده في المغرب، وقد فكرت في أنه إذا فرض وصدقت المعلومات هذه المرة وحدث شيء، فإن أنور يصلح لسد الفترة الانتقالية، وفي فترة الانتقال فإن دور أنور سيكون شكليا.» ثم أضاف عبد الناصر: «إن الآخرين جميعا واتتهم الفرصة ليكونوا نوابا لرئيس الجمهورية إلا أنور، ولعله دوره الآن ... وعلى أي حال فهي فترة أسبوع على أرجح الأحوال.»
وتلا ذلك حديث طويل عن شواغل عبد الناصر الكثيرة خلال الفترة التالية، تخلله حديث آخر عن فضيحة ارتكبها أنور السادات «وكان يمكن أن تكلفه منصبه كنائب رئيس الجمهورية، وتغير بالتالي مجرى تاريخ مصر الحديث»، وهي استيلاؤه بالقوة، وعن طريق قرار جمهوري، على قصر في الهرم كان يملكه ضابط سابق اشتغل بالأعمال الحرة، ثم حانت ساعة موت عبد الناصر، «كان السادات لا يزال حتى ذلك الوقت هو نائب الرئيس رسميا، وبكل الشواغل التي ألحت على العمل الوطني، من مؤتمر الرباط إلى زيارة موسكو السرية إلى استمرار حرب الاستنزاف إلى مبادرة روجرز إلى المواجهة بين الملك حسين والثورة الفلسطينية في الأردن، فإن وضع أنور السادات كنائب للرئيس كان قضية منسية حتى وإن كان قد خطر للبعض - بمن فيهم جمال عبد الناصر نفسه - أن الأمر قابل لإعادة النظر فيه، وهكذا بقي أنور السادات في مكانه حتى هذه اللحظة الحزينة.»
معذرة، أيها القارئ العزيز، على هذا الاقتباس الطويل، ولكن هذه اللحظة التي يصفها هيكل، وهي اللحظة التي يجد فيها مناسبة لاستعراض مكانته (أجلسني بجانبه كما كان يفعل دائما)، والتي تحدث فيها عبد الناصر إلى هيكل بابتسامة وفاجأه بسؤاله الذي يحمل معنى الدعابة: هل تعرف ماذا فعلت اليوم؟ هذه اللحظة هي التي قررت مصير مصر، ومعها الأمة العربية، حتى يومنا هذا، في هذه اللحظة بدأت المسيرة المشئومة المؤدية إلى زيارة القدس، والصلح والتطبيع، وترك لبنان والفلسطينيين لمخالب الوحش الصهيوني، والانفتاح، ونهب مصر، ووصاية البنوك الدولية والأمريكية على اقتصادها ... هذه اللحظة التي يعرضها هيكل باستخفاف شديد، بل وينتهز الفرصة للتفاخر بذاته وبقربه الدائم من الرئيس، هي التي فتحت الطريق لكوارث مصر والعرب في السبعينيات، ولهذا اقتبستها من كتاب هيكل بالتفصيل.
ولكنني لم أقتبسها فقط لكي أبين التضاد المحزن بين جو الخفة والسهولة الذي كان يصفه هيكل في سطوره، وبين شبح المصير المأساوي الذي يطل من بين سطور هيكل، ساخرا من القارئ ومن هيكل، ومن عبد الناصر، بل ومن الأمة العربية جمعاء ... كلا ، لم أقتبسها لغرض كهذا فقط، وإنما اقتبستها لكي أشرك معي القارئ في محاولة طويلة لاستخلاص المعاني البشعة التي تنطوي عليها هذه السطور.
أول هذه المعاني هو البساطة العجيبة التي اتخذ بها قرار خطير كهذا ونفذ على الفور: عبد الناصر يطلب إلى السادات أن يجيء معه بالمصحف أثناء مروره عليه ليصحبه إلى المطار، السادات لا يعرف السبب، ولكن المفاجأة تنتظره، يقسم اليمين، وبذلك يتحدد من سيكون رئيس جمهورية مصر القادم، هيكل نفسه لم يكن يعرف، ولكن يتضح أن السبب هو تقرير عن مؤامرة محتملة في المغرب لاغتيال عبد الناصر، مؤامرة لم ينظر إليها عبد الناصر بجدية، ولكن لا بأس من الاحتياط! هكذا، بلا استشارة حتى من أقرب المقربين، يحدد الحاكم من سيخلفه في حكم بلاده في مرحلة من أحرج المراحل التي مرت بها طوال تاريخها الحديث، ويقرر بذلك مصير أمته من بعده! لست أدري ماذا يكون شعور القارئ حين يقرأ هذه السطور، ولكنني أقول عن نفسي إنني شعرت بالإهانة حين وجدت مستقبلي ومستقبل أبنائي وبلدي، يحدد بمثل هذا الاستخفاف، دون أن تكون لي، كمواطن، كلمة ولا رأي، ودون أن يصل صوتي عن طريق القنوات التي صاغتها تجارب طويلة للشعوب، والتي تتيح للناس في المجتمعات التي تحترم مواطنيها أن يختاروا من سيتحمل مسئولياتهم في مستقبل الأيام.
Неизвестная страница