على هذا الجانب الأخير تعتمد خطورة المسرح، خطورة الدور الذي يلعبه؛ فهو هنا - كأداة تثقيف وتوجيه - يتصدر قائمة كل الأدوات المماثلة، من ناحية التأثير المباشر. وعلى الرغم من المنافسة الشديدة التي يلقاها من السينما والتليفزيون، فإنه ما يزال في بعض الدول التي توفر له كل نضج الإمكانيات، صامدا أمام منافسيه. إننا عندما نضع المسرح في ميزان المقارنة، وفي كفة ما سميناه بالتأثير المباشر، يتضح لنا فارق جوهري بينه وبين السينما والتليفزيون. إنه كأسلوب تجسيمي من أساليب العرض، يعتبر أكثر فعالية وإثارة؛ فنحن أمام خشبة المسرح، نشعر أننا نلقى الأحداث والمواقف ذلك اللقاء الحي، الناتج من كون النماذج الإنسانية التي تواجهنا نماذج حية. هؤلاء الممثلون الذين يجسمون لنا تلك الأحداث والمواقف، ويقدمون لنا الحياة من خلال قطاع اجتماعي معين. لا يبدون في رؤيتنا النفسية والبصرية - كما هو الحال في السينما والتليفزيون - وهم صور فوق شاشة.
إن مادية الإحساس في الجانب البصري من الرؤية، هي العامل الأبعد أثرا في تعميق مجرى انفعالاتنا الداخلية. وكأننا لا نقف أمام تسجيل مصور الحياة، وإنما نقف وجها لوجه، أمام الحياة نفسها وبلا وسيط؛ هذا الوسيط في السينما والتليفزيون هو الشاشة وجهاز العرض. فإذا ما حيل بين طاقتنا الانفعالية، وبين مدى التجاوب؛ فلأننا لم نستطع أن نلغي من إدراكنا الوجداني تلك الوساطة بيننا وبين الواقع.
من هنا تأتي قيمة المسرح وامتيازه. ولكن أي مسرح هذا الذي نعنيه؟ إنه المسرح الذي يجب أن يتوفر له كاتب معين وجمهور معين. في حدود هذين البعدين من أبعاد أزمتنا المسرحية، تتمثل المشكلة الأكثر تعقيدا وصعوبة. ولا نريد أن نذهب مع المهتمين ببحث هذه الأزمة إلى أن الكفاية للمسرح ليست بالأمر الهين، ولا إلى أن كتابنا المسرحيين الذين يجيدون هذا العمل قلة نادرة، فهذا كله مفروغ منه. من الممكن مع مختلف ألوان الدراسة والممارسة والتشجيع، أن يرتفع مستوى الوعي والإجادة للكتابة المسرحية، وأن يزداد عدد الكتاب. المشكلة كما أتصورها ليست مشكلة الفهم التكنيكي للعمل الدرامي، وليست مشكلة الكم العددي لما نحتاج إليه من كتاب مسرحيين. الكيف لا الكم هو الذي ننشده لمسرحنا العربي الحديث، ومن زاوية موضوعية محددة.
إننا نلاحظ - والواقع يزيد هذه الملاحظة - أن مسرحنا يعقد أكثر صلاته الاجتماعية مع ماضينا القريب، حتى ليمكن أن يقال إن هذا الماضي قد أصبح الوطن الروحي لأعمالنا المسرحية؛ وليس من شك في أن للماضي الذي مارسناه كتجربة نفسية معاشة، علاقة ارتباط وثيقة متعددة الجوانب بالحاضر الذي نعيشه اليوم، مع اختلاف لون التجربة. وبمتابعة خط السير الطبيعي لعجلة التطور، يصبح هذا الحاضر نقطة ارتكاز لمستقبل مرتقب يمكن أن يرسم له الكاتب من التصورات ما يحدد معالمه. هي إذن عملية متشابكة ومتداخلة، تحتاج إلى نوع من الرؤية العقلية البعيدة، التي تتخطى المنظور إلى ما وراء حدود المنظور. من هنا نستطيع أن نقول إن دوران المسرحية العربية الحديثة حول مشكلات الماضي، وبمثل هذه الصورة الملحة، لا يمكن أن يقدم إلينا الكاتب المسرحي الذي نريده؛ الكاتب الذي يملك من وسائل الخبرة الفنية، ما يتيح له أن يوجه سلوك أبطاله على أساس التفاعل الحدثي بين الماضي والحاضر، وأن ينسج مصيرهم من خيوط تصوراته العقائدية لواقع المستقبل، على ضوء تلك الرؤية العقلية البعيدة.
ولا نقصد بهذه التصورات أن يرسم لنا الكاتب المسرحي تخطيطات مفصلة لذلك الواقع المقبل الذي يمكن أن يتطور إليه حاضر الشخصيات؛ لأن العمل المسرحي يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن طابع الدراسة الاجتماعية أو الاقتصادية من جهة؛ ولأن المقصود من جهة أخرى هو نوع من التخيل، الذي لا يمكنه أن يتمثل الأشياء البعيدة بكل جزئياتها الدقيقة، وإنما يتمثلها في هيكلها الخارجي العام أو ملامحها الشكلية البارزة. إننا نستطيع في العمل المسرحي أن نجعل المتفرج «يرى» الماضي والحاضر، أما المستقبل فنستطيع أن نجعل نفس المتفرج «يتخيله»؛ فكل ما هو مدرج في قائمة الوجود المادي الذي يعاش كانفعال وتجربة، نطالب الكاتب المسرحي بأن «ينقله» إلينا كواقع مرئي ومحس، وكل ما يتضمن قابلية الإدراج في نفس القائمة، ويحتمل منطق النتائج المترتبة على المقدمات، نطالب هذا الكاتب بأن «يرسبه» في نفوسنا كواقع تصوري أو متخيل. وعملية الترسيب هنا - كما تفرضها مقتضيات المسرح - يجب أن تتم عن طريق التركيز والإيحاء، لا عن طريق التفصيل والتفسير، وذلك من خلال الاتجاه النفسي لسلوك الشخصيات.
أنطون تشيكوف في «بستان الكرز»، يقدم إلينا النموذج التطبيقي لهذا المسرح الذي نريده؛ يقدم إلينا حاضر الطبقة الأرستقراطية، بكل ما فيه من تفاهة وسطحية وانحلال، وهو يرينا هذا الحاضر من وراء لمسات تهكمية موجعة، نستخلصها من خطوط رسم كاريكاتيري لاذع. وعلى امتداد هذه الخطوط التحليلية المعبرة، تبدو هذه الطبقة وهي عاجزة عن التكيف مع الواقع؛ لأنها لا تفهم - أو لا تريد أن تفهم - منطق هذا الواقع؛ وتتعرج خطوط الكاريكاتير لنخرج من هذه التعارج بأن هذه الطبقة لا تصلح لشيء، وأن حاضرها يؤذن بالأفول. ومن نافذة الحاضر يسمح لنا أنطون تشيكوف، بأن نلقي نظرة ساخطة على ماض بشع؛ نلقيها ونحن ننصت إلى «تروفيموف» وهو يتحدث إلى «آنيا» الأرستقراطية المترفة، ويذكر بأن آباءها وأجدادها كانوا من ملاك الرقيق، وأن وجوه هؤلاء الأرقاء وأصواتهم ترنو إليها، وتصرخ من أعماق كل ثمرة وكل ورقة وكل شجرة في بستان الكرز. إن أهلها - طوال حياتهم - يعيشون عالة على وجود الغير، على وجود هؤلاء الرقيق؛ وهم، هي وأمها وخالها، عاجزون عن فهم أوضاعهم القائمة على هذه الحقيقة، فإذا أرادت أن تعيش معه في الحاضر فعليها أن تنزع من فوق جدران وجودها صورة ماضيها الكريه؛ يجب أن تضع لهذا الماضي حدا وأن تتخلص منه كل الخلاص. إن هناك مستقبلا سعيدا ينتظرهما، وإذا لم يقدر لكل منهما أن يعيش ليراه، فسيعيش غيرهما ليرى هذا المستقبل، ويجني ثماره.
هكذا يقوم المسرح التشيكوفي بعملية ربط هادفة بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهو هنا لا يقدم إلينا تخطيطا مفصلا لمجتمع الغد كما تخيله تشيكوف، وإنما قدم إلينا - بواسطة الإيحاء المركز - مضمون الصورة العامة لواقع هذا المجتمع، عبر تلك الرؤية العقلية البعيدة. ومن الملاحظ أن بعض أبطال تشيكوف، ممن كانوا يعيشون أحلام الغد وتصورات المستقبل، تنقصهم إيجابية السلوك وقوة الإرادة؛ كانوا في حدود رسمه لهم، سلبيين في مواجهة وجودهم القابل للتغيير والتطور. ونفس الملاحظة تقودنا إلى ملاحظة أخرى، بالنسبة إلى موقف تشيكوف من سلبية أبطاله؛ وهو أنه كان يسخر من هذه السلبية المتمثلة في عجزهم عن تحقيق ما يتطلعون إليه من أحلام. من هذا الموقف الاتجاهي يمكننا أن نلتقط مفتاح قضية من قضايا الأدب والنقد، خلاصتها كما أوضحنا ذلك من قبل وفي غير هذا المكان، أن الكاتب يستطيع أن يكون إيجابيا من خلال السلوك السلبي لأبطاله القصصيين أو المسرحيين، حين يصب هذا السلوك في قالب من العجز المخفق، الذي يثير فينا دوافع الإنكار والسخط، والذي يوحي إلينا بأن الكاتب يشاركنا نفس الشعور، ويقف معنا على نفس الصعيد الالتزامي المعترض؛ المهم هو موقف الكاتب من سلوك أبطاله، موقفه من الناحية الفنية والالتزامية، وعند هذه النقطة تتحدد مسئوليته أمام القارئ والناقد.
نريد أن نقول عن الكاتب المسرحي الذي نريده، على ضوء هذا النموذج التطبيقي من أعمال تشيكوف: إنه الكاتب الذي يجب أن يعيش واقع حاضره وماضيه عن طريق الرؤية الفنية اللاقطة، ويعيش واقع مستقبله عن طريق الرؤية العقلية المتصورة. ولا جدال في أن هذه المطالب، لكي تصل إلى مرحلة عملية من التحقيق، تحتاج من روافد الثقافة وقيم الأخلاق، ما يهيئ للكاتب أن يكون صاحب موقف، أو صاحب وجهة نظر عقائدية، تحدد اتجاهه الفكري والخلقي من مشكلات المجتمع وقضية الإنسان.
وما دمنا في معرض الحديث عن أخلاقية الموقف الفكري لكاتب المسرح، فإن سارتر - على المستوى النموذجي للدراما الحديثة - يطالعنا كمسرحي ممتاز؛ إننا نذكر له - على سبيل المثال - موقفه من احتلال النازية لوطنه في «موتى بلا قبور»، وموقفه من اضطهاد الرجل الأمريكي الأبيض للزنوج في «البغي الفاضلة» أو «العاهر الحفية» إذا أردنا الدقة في الترجمة. في «موتى بلا قبور» يضعنا سارتر في الطرف المقابل من سلوك أبطاله، ليجعلنا نواجه - في حساسية فائقة وتوتر بالغ - وجهة نظره الفكرية فيما يجب أن يكون عليه موقفنا من عدو غاصب؛ معنى ذلك أن تبدأ حركة المقاومة، وقد بدأت هذه الحركة في عمله المسرحي، بأصدائها المنعكسة على عدد من المجاهدين، الذين وقعوا أسرى في أيدي الألمان؛ إن «لوسي» بطلة المسرحية يحيلها سارتر إلى واجهة عرض ضخمة لموقفه الاتجاهي الصارم، بالنسبة إلى مفهوم البطولة النفسية في لحظة لقاء طويل ومرهق، بين سطوة المنتصر وكبرياء المهزوم. إن «لوسي» تعرض علينا - بالنيابة عن سارتر - كل المقومات السلوكية لهذه البطولة، لقد عرضوا كيانها الجسدي والنفسي لأبشع ألوان التعذيب: الضرب المبرح وهتك العرض، ومع ذلك فقد عجزوا عن أن يشيعوا في هذا الكيان الصامد معنى الذل، لقد كانت تمارس تجربة مرة، ولكنها كانت بالنسبة إلى فم وجودها الإنساني سائغة المذاق. مضمون هذه التجربة هو الكبرياء؛ كبرياء الألم؛ ولكي نمارس هذه التجربة بنجاح، يجب أن نفرض على أنفسنا لونا من الحقد الانطوائي المترفع. إن الذين يريدون أن يخربوا في الإنسان كل ما هو جميل وشريف وقيم، ينتظرون اللحظة التي تنبثق منها رغم أنف الإرادة بادرة من الضعف؛ إنها بالنسبة إليهم لحظة الشعور بهزيمتنا وانتصارهم! إننا في قبضة أيديهم، هذا صحيح؛ والأصح منه أنهم أيضا في قبضة أيدينا! إنهم لن يطلقوا سراح حريتنا وعلينا أن نعاملهم بالمثل، ألا نطلق سراح حريتهم؛ حريتهم في أن يرونا يوما وقد عرفنا الذل والخضوع! إنهم أسرانا، تماما كما نحن أسراهم؛ بهذا نشعرهم أن وجودنا شيء حقيقي ومجسم، ونشعر أنفسنا بأن وجودهم لا وجود له! ومن الواجب أن ننتصر على أنفسنا، وذلك بأن نلغي من قائمة عذابنا معنى الإحساس بالألم؛ هذا الألم يجب أن ينهزم، هذا هو المفهوم البطولي للتجربة، تجربة الكبرياء!
تقول «لوسي» لأخيها الصغير، وهي تشير إلى موقفها ممن هتكوا عرضها، ثم وهي تحذره من الاعتراف للعدو بأسرار حركة المقاومة تحت ضغط الإرهاب: «إنهم لم يلمسوني؛ لم يلمسني أحد ... لقد تحولت إلى قطعة من الحجر؛ ولم أشعر بأيديهم وهي ترغمني؛ كنت أتطلع إلى وجوههم وأفكر في أن شيئا لم يحدث؛ كلا، لم يحدث شيء؛ لقد كنت في النهاية أذيقهم طعم الخوف؛ إنك إذا اعترفت يا «فرانسوا» فإنهم يكونون في الواقع قد هتكوا عرضي!»
Неизвестная страница