وما مضت دقائق أخرى حتى كان سيد قد جمع أخشابا من الفناء المهمل، وأحضر رملا وضعه على البلاط، وأوقد نارا ليدفئ المكان الذي كان يعصف به البرد، وامتلأت الحجرة باللهب الأحمر الوهاج الذي تشيع مجرد رؤيته الدفء والأمان ، وأطفأ سيد معظم الشموع وأبقى اثنتين وقال: تشرب شاي؟
وشد حمزة على يده وكاد يقبله، فقطرة الشاي في مكان كذاك وفي ليلة كليلتها وبعد أهوال، كانت لا تقدر بثمن، وقال له: يا سلام يابو السيد، دا انت تبقى واد مافيش منك، فكرتني بحسن، كان يقول لي تشرب شاي أقول له: آه، يقول لي: نعملولك شاي.
والله وحشني قوي، بس حتعمل شاي ازاي؟ - جايب معايا العدة كلها.
وأشار لعدة في منديل محلاوي كان قد وضعها على الفراش الآخر، ودهش كيف لم يفطن لسيد وهو يحملها.
وحين ارتشف أول رشفة من الشاي وسرت كهربتها في جسده مر بخياله بدير، ولا يدري لم؟ فقال له في سره وهو يبتسم: أين أنت يا أستاذ بدير لترى أني لا أضيع حياتي من أجل الناس عبثا، كل واحد منهم يستاهل أن أضيع عمري من أجله.
وبدأ حديث العمل، وأنهاه حمزة بقوله: خلاص من بكرة حنبتدي، حنعمل بكرة اجتماع الساعة، الساعة تلاتة، كويس؟ - إحنا بنخلص الساعة تلاتة، وعلى ماجي هنا تكون بقت تلاتة ونص. - طيب زي بعضه، تلاتة ونص، وتجيب معاك الحاجات. - حاجيبهم إن شاء الله.
وحين انتهيا كان سيد لا يزال جالسا على الفراش المقابل قاعدا ورأسه بين ركبتيه، وكان حمزة قد أنزل البطانية من فوق أكتافه ولفها حول جلسته، والنار التي بدأت تخمد تضيء وجهه بألوانها التي تمتد من الأحمر الطوبي إلى الأصفر، وتعبث بملامحه المتعبة.
وكان ينظر إلى سيد نظرات طويلة، ويتذكر أول يوم قابله فيه قريبا من وزارة الشئون الاجتماعية، ورجاه أن يكتب له طلبا ليعمل في الحكومة كغيره من عمال القنال الذين تركوا المعسكرات ونزحوا إلى القاهرة، والذين كانوا لا يفترقون عنه إلا في أنه لا يحمل ما يثبت أنه كان يعمل في الجيش الإنجليزي.
وسأله حمزة فجأة: انت بتشتغل ايه في الوابور؟ - نقاش. - نقاش؟ بتعمل ايه يعني؟ - بانقش حجارة الطاحونة. - وتعلمتها فين يا أبو السيد الحكاية دي؟
ولوى سيد رقبته وأدار رأسه إلى ناحية كمن يقول: ياما اتعلمت .
Неизвестная страница