ومر اليوم بلا بدير على الغداء وبه بلا غداء، ثم جاع في العصر فمضى إلى المطبخ يبحث، وأسكت ما وجده آهات، وولد المطبخ والمائدة الرخامية وعليه آثار بن آهات.
وفي الخامسة فوجئ أكبر مفاجأة.
دق جرس الباب وفتح، وروع بفوزية واقفة تلهث وشفتها السفلى ترتجف محاولة أن تبتسم، وأهدابها تسترخي على عينيها وهي تقول وكأن ليس بها رغبة في الدخول: أنا جيت.
وتمتم حمزة بأشياء، وخطت إلى الداخل في تراخ وأغلقت شيش النافذة، وأشعلت مصباح المكتب وأضاءت الحجرة بالضوء الباهت المنعكس، وجلست على نفس الفوتيل ووضعت ساقا غير ثابتة فوق ساق ثم قالت: عايزة قهوة، في كباية كبيرة وحياتك.
11
كان المطبخ لحمزة في ذلك الوقت نجدة أتته من حيث لا يدري ولا يعلم؛ فالمطبخ ودورة المياه وزنازن السجن وكل تلك العلب المبنية الصغيرة التي لا تكاد تسع الإنسان، في هذه الأماكن يحس الإنسان أنه أقرب ما يكون إلى نفسه، ويحس حالما يغلق الباب عليه بأمان غريب، وكأنه قد أصبح بينه وبين العالم ومآسيه سد منيع، وكان حمزة وهو يعد القهوة يحس بالمطبخ ببياضه ونظافته وكأنه أخته العانس الطيبة التي تعود أن يعترف لها بأدق أسراره دون حياء أو ندم أو رغبة؛ ولذلك ترك عقله يتشتت وتذهب كل قطعة منه في ناحية، حتى إنه وضع البن والسكر في الكنكة ثم وضعها على الموقد دون أن يضيف إليها ماء حتى تصاعدت رائحة السكر المحترق ، فتنبه وباشر إعدادها مرة أخرى بحرص أكثر، كان يحس بنفسه خفيفا خفة غير عادية وكأنه بالون ممتلئ بغاز أخف من الهواء، وكان يحس بالسعادة ويريد أن يتجاهل إحساسه بها حتى لا يحزن وييأس حين يفقدها.
كان به فرح غير عادي ورهبة غير عادية أيضا، إن مجيئها ليس له إلا معنى واحد: إنها استجابت وجاءت، وإن الظلام الذي تراكم في نفسه وشوه أمامه طريق المستقبل قد انقشع فجأة وحفل الطريق بنور باهر فياض، إنه بالأمس وحين طرح ذات نفسه أمامها فإذا بكلامها ينهال عليه لاسعا ملتهبا، وإذا بالألم العظيم يجتاحه وقد قدم لها قلبه فكوته بالنار. أحس بالأمس أن كل شيء قد انتهى وأن الأمر لم يكن سوى وهم عابر أيقظته منه قرصة واقع أليم. كان بالأمس - وبعدما حدث - يبحث في نفسه عن بقية باقية من عاطفة تجاهها فلا يجد.
ولكن ماذا حدث؟ أمجنون هو؟ وهل نفسه أرجوحة صبيانية تصعد في لحظة إلى السماء؟ وما تكاد تتكامل اللحظة حتى تكون قد هوت إلى الأرض، وما تكاد تبدأ لحظة جديدة حتى تكون مرة أخرى وجهتها السماء؟ لقد أحس وهي واقفة على الباب تقول له: «أنا جيت.» عبر شفتها الراجفة الباسمة، أحس أنه حقيقة يحبها حبا كفيلا بملء الكون كله، حبا لو وزع على ملايين من الناس لأشعل في قلب كل منهم نارا، وأحس بأن الأمر جد وأن عاطفته ناحيتها لم تكن عيبا ولم تكن انحرافا ولا جريمة، وإنما كانت حقيقة مادية ظلت تترسب طبقة وراءها طبقة في أعماقه، ليس هذا فقط، بل إنه أدرك فجأة أنه كان يحبس عواطفه في قمقم ويأبى عليها الانطلاق، وأنه كان مثل الميت من الجوع حين يذهب في زيارة ويجيء الطعام ألوانا أمامه ويأبى أن يتذوق منه شيئا؛ لأنه مكسوف، ولأنه عيب، ولأنه معقد تعقيدا يسد عليه مسالك الحياة.
لماذا يلف ويدور ويسخط ويبتئس ويضحك على نفسه وينوح؟ لقد أحبها وهي الآن معه، له، جاءته بملء إرادتها وباختيارها؟ لماذا هو مغرم بإقامة العراقيل واختلاق السدود والطريق أمامه واضح وصريح وفوزية كلها على قيد خطوات منه؟ ولماذا هو واقف كالعبيط يفكر ويحلل ويصنع القهوة ويدعها تنتظر ويؤجل اللحظة الحاسمة؟
وقبل أن يتحرك حمزة شعر بيد توضع على كتفه، نفس الأصابع النحيلة الطويلة وكأنها امتدت إلى قلبه مباشرة ومست شغافه، والتفت إليها ليجد نفس وجهها الذي لا يمل رؤيته، ونفس ابتسامتها ونفس عينيها العسليتين، وكم كانت جميلة عيناها، وكم كان جميلا أن يحدق فيهما ويرى صورته واضحة وناطقة حتى بنظارته ومنعكسة على كل حدقة من حدقتيها، صانعة ستارا رقراقا محلى بصورته ومسدلا فوق عسيلة عينيها، لا يخفي جمالها بقدر ما يبرزه ويثيره.
Неизвестная страница